الزمن تغير، وتغير معه موقعُ المعرفة، ومصدرُ الفهم، ومكانةُ السن، وصار الفتى يحمل في يده أدواتٍ، لو قُدّر لها أن تُفهم، لفاق بها من تقدم عليه في تاريخ الميلاد.
كان مثل «أكبر منك بيوم، أعلم منك بسنة»، في بيئته الأولى منبعًا للتواضع، ورسالة ضمنية تُذكّر بأن التجربة لا تعوّض، وأن الطريق يُدرَك بالمشي لا بالحدس؛ غير أن المثل تحول شيئًا فشيئًا، إلى غطاءٍ لتسلط بعض الكبار، وإلى ذريعةٍ لإقصاء من لم يبلغ عمرًا معينًا، وإن ملك من الوعي ما يُنصت له؛ وما لا ينتبه إليه كثيرون، أن كِبَر السن يمنح التقدير، لا العلم، ويستحق الاحترام، لا العصمة؛ أما الفهم، فهو مرتبة لا تساير التاريخ، بل يُهديها الله لمن نظر بعينٍ باصرة، وعقلٍ لم يتقاعد عن السؤال.
واقعنا الحديث يُثبت أن العُمر وحده لا يصنع فهمًا، ولا يورث حكمة، ورأينا شبابًا يخوضون تجارب عقلية وواقعية واسعة وهم في مقتبل أعمارهم، وسمعنا عن صغارٍ تصدّوا لقضايا فكرية وأخلاقية بتوازنٍ يعجز عنه من هم أكبر منهم سنًّا بمرات، وهذا يؤكد أن أدوات الفهم تغيّرت، وأن الوعي صار يُكتسب من نوافذ غير تقليدية، لا من حصيلة العمر وحده، وأن التاريخ لم يعد معلمًا صامتًا فقط، بل صار تلميذًا لمن يحسن قراءته، وأنه إذا كنا نُقرّ بفضل التجربة، فلابد أن نُقرّ كذلك بأن الحكمة لا تورَّث تلقائيًّا، بل تُنتزع من التأمل والمراجعة، وتُهذّب بالخطأ والمحاسبة، لا بالزمن المجرد.
التجارب الحياتية أثبتت أن من عاش «60» عامًا دون أن يتعلّم من خطأ، كان كمن دار في حلقة لا مخرج منها، وأن من وصل «18» عامًا بصدق نظر وعمق تأمل، بلغ ما لم يبلغه غيره في عقود، واليوم نحن في أمس الحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الأجيال؛ فلا الصغير يُقصى بدعوى حداثة سنه، ولا الكبير يُعظم لمجرد أنه سبق، والمعيارية تبنى على وضوح الفكرة، ودقّة الفهم، وجودة الرأي، لا على تاريخ الميلاد.
إن الكبار يُهدوننا بُعد النظر، والصغار يُهدونهم سرعة البديهة، والكبار يُعلّموننا الاتزان، والصغار يُذكّرونهم بالحيوية، وبين الاثنين، يتشكّل المعنى الكامل للإنسان؛ ولذلك فإن مثل «أكبر منك بيوم، أعلم منك بسنة» لا يُلغى، بل يُفهم ضمن حدوده، والتقدير لا يعني التسليم، والسبق في الميلاد لا يعني السبق في الرأي، والتجربة الثمينة لا تثمر ما لم يُرافقها عقل يسأل، وقلب يتواضع، وضمير يُراجع.
أخيرًا.. التفاوت في الأعمار ليس هو ما ينبغي أن يُفرّق بين العقول، بل التفاوت في الفهم، وسعة الأفق، وصدق التجرّد، لأن «أصغر منك بيوم، أعلم منك بسنة» أمر حقيقي واقع في زمانٍ تَقدّمت فيه الأدوات، وتأخّر فيه الاحتكام للعقل، وصار لازمًا على الكبير مسايرة الصغير في التعرف على كيفية استخدام أدوات «الذكاء الاصطناعي» بشكل أخلاقي ومسؤول، والعِبرة في النهاية ليست في من تقدّم، بل في من فهِم.
خاتمة من شعر «الذكاء الاصطناعي»:
كم من صغيرٍ قد أتته بصيرةٌ
فرأى بها ما لم يَرَ الشيخُ اللبيب
فالسنُّ ليس بحاكمٍ في مجلسٍ
إن غاب عنه الرأيُ والعقلُ الأريب.