فيما أقرا هنا وهناك، وفي كثير مما أسمع مغالطات وتناقضات حول كثير مما يتعلق بالأوروبيين في هذا الخليج الذي نعيش عليه، والذي اختلفت عليه تسميات كثيرة، وقد آثرت أن أختار هذا الموضوع، وليس في نيتي أن أتابع الموضوع على أي قدر من الاستطراد أو التفصيل، فالموضوع كبير والكلام فيه يطول.. وكل ما يعنيني في الواقع أمران اثنان سأحاول ألا أحيد عنهما أبدا، فأما الأمر الأول فهو وصف يعطي القارئ فكرة واضحة عن دوافع سائر الأمم الاستعمارية الأوروبية التي كان لها اتصال مؤثر بهذه المنطقة، وأما الأمر الثاني فهو تصحيح كثير من المفاهيم التي يتداولها الناس العاديون غير المختصين عن أحداث المنطقة مع هؤلاء الأوروبيين، وكان معظم المعلومات المتداولة إما مستقاة أصلا من مصادر أوروبية متحيزة بالطبع أو روايات محلية اعتورها الكثير من التحريف، ولم تصل إلى شيء في رؤية الأحداث على منظور واسع شمولي، وإنما معظمها في أمور ووقائع محلية، وفي شيء كثير من المبالغة والسذاجة.

ومن نافلة القول أن أعيد الكلام الذي قدمت به أكثر الكتب الحديثة، الأجنبية والعربية، عن الخليج وأهميته القديمة وتطلعات الغزاة إليه من عهد الإسكندر الإغريقي وما قبل عهد الإسكندر وبعده، ولا عن الحقائق المتفق عليها من قدم عصر اللؤلؤ والمتاجرة به والغوص عليه، والأرباح الخيالية التي قد ينطوي عليها ذلك، ولا عن الموقع الإستراتيجي الممتاز للخليج بين الشرق الأقصى والهند من ناحية وبين أوروبا وإفريقيا من الناحية الأخرى. فكل هذا الكلام قيل وأعيد غير مرة واحدة، وامتلأت به كتيبات الإعلام العربي المعاصر حتى بات مملولا.

ولكن هناك مجموعة من الحقائق التي لم يجر تداولها إلا لماما، ولم يفطن لها الباحثون على المستويات الإعلامية والصحفية، ولكني لن أثقل بها كاهل القارئ العادي دفعة واحدة، وإنما أنوه بها كلما كان إيرادها مقترنا بحركات هذه الدول الأجنبية التي وفدت إلى الخليج.


وأبرز هذه الحقائق واحدة لم يفطن لها البرتغاليون، طليعة الأوروبيين الذين دخلوا هذه المنطقة ألا وهي أن منطقة الخليج إنما تطلب لمياهها من دون برها وأراضيها، وهى حقيقة ظلت قائمة حتى تخلخلت بوجود البترول في البر إلى جانب البحر، كما أنها لم تتضح لأذهان البرتغاليين وربما لم تخطر لهم على بال، ومن هنا، ومن جراء الأفكار المتعصبة الأخرى التي كانت تملأ رؤوسهم، وبفعل خطئهم الكبير بإيثارهم البر والبحر، فإن الشرس المتعصب لم يدم طويلا، فقد كفى قرن من الزمان لاقتلاع جذوره من المنطقة كلها. وقد حاول البرتغاليون أن يلبسوا ثياب التجار بعدما فشلوا في الاستعمار فلم يفلحوا أبدا، وما كذلك حال نقضائهم من الإنجليز الذين عمقوا فكرة التجارة والتجار أكثر من قرن من الزمان قبل أن تظهر عليهم آية إمارة أو بادرة واضحة من بوادر الاستعمار، والذين ظلت عنايتهم بالبحر أضعاف عنايتهم بالبر، إلى أن دفعتهم الظروف المواتية التي عملوا على خلقها ببطء وروية أن يصبحوا حكاما للبر والبحر، وأن يجعلوا لهم رئيسا لحكم المنطقة في مدينة بوشهر.

ولنبدأ الآن بقصة البرتغاليين أول المستعمرين! لقد كانت البرتغال ضمن شبه جزيرة آيبريا التي حكمها المسلمون، بعيد انتصارهم في وادي شريش بالأندلس بوقت قصير، ولكن صعوبة تضاريس ذلك الإقليم وكذلك إقليم الباسك والأقاليم الجبلية عموما في أقصى شمال إسبانيا وعلى حدودها المتاخمة لجبال البيرانيس كانت تجعل الحكم الإسلامي العربي لتلك الأجزاء حكما غير متواصل، فحالما يختلف المسلمون أو يسوء حكمهم في قرطبة تتراخى قبضتهم في الأقاليم الجبلية، ويمكن القول بأنه منذ وفاة المنصور بن أبي عامر الحاجب قبيل نهاية القرن الرابع للهجرة بقليل انحسر الوجود الإسلامي من المناطق الجبلية في غرب آيبيريا وشمالها، وأصبح المسلمون يستعينون بالدويلات النصرانية على بعضهم، وكما أصبح في جيوشهم أعداد ملحوظة من المرتزقة النصارى، وكان لهذا الاختلاط السلمي أثره في تحضير سكان تلك الجبال الذين لم يفقدوا شيئا من رجولتهم وقوة أسرهم وحبهم للمغامرة، فلما أن تفتحت أذهانهم للعلم والمعرفة لم تسقط لهم آخر معاقل المسلمين في الأندلس قبل نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، إلا وقد أصبحوا جاهزين للإفادة من أقصى منجزات الفكر العلمي الإسلامي في اتجاهات الجغرافية والفلك، وبينما أشرفت إسبانيا على الإفادة من القناعة بكروية الأرض وقعت في اكتشاف العالم الجديد، فإن البرتغاليين الذين يطلون على سواحل الأطلسي على امتداد كبير، والذين لم يعودوا يرون فيه بحر ظلمات ومخاوف أسطورية، شرعوا في التوجه جنوبا إلى الساحل الإفريقي الغربي قاصدين أمراً أعظم من ذلك، ألا وهو الحصول على تجارة الهند والشرق، وكف أيدي المسلمين عن طرق التجارة العالمية في بحار الشرق.

1975*

* كاتب بحريني «1939 - 2024».