في قطاع غزة، تتكشف فصول مأساة إنسانية يومية على مرأى ومسمع العالم. لا يقتصر الأمر على سقوط القذائف التي تودي بحياة الأبرياء والأطفال والنساء وكبار السن والعزل وهم في منازلهم، أو وداع الأهل لأبنائهم للبحث عن لقمة العيش والأكل دون يقين بالعودة، بل يتجاوز ذلك إلى سياسة التجويع الممنهج التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي حيث تحول الغذاء، وهو أبسط حقوق الإنسان وضرورة بقائه، إلى سلاح فتاك يُستخدم ضد الشعب الفلسطيني. هذه السياسة الإجرامية لا تهدف فقط إلى معاقبة جماعية، بل إلى إخضاع الشعب وكسر إرادته، أو دفعه نحو النزوح القسري، وفي النهاية، الإبادة. للسيطرة الكاملة على قطاع غزة وتهجير سكانه أو قتلهم، لتصبح هذه أكبر كارثة في زمننا المعاصر، إبادة شعب وطمس هويتهم ومحاولة نفيهم من الأرض ومصادرة حق شعب كامل. فعندما يصبح الجوع سياسة ممنهجة، يحوّل المدنيين إلى ضحايا مباشرين، ويستخدم معاناتهم أداة للمساومة والضغط، لتحقيق أهداف غير مشروعة وغير شريفة. ولعل سياسة التجويع كسلاح حرب ليست ظاهرة حديثة، بل ممارسة وحشية تعود إلى قرون مضت. فالتاريخ يستحضر أمثلة فادحة تذكرنا بفظاعة هذه السياسة، من ضمنها كارثة الهولودومور في أوكرانيا عام 1932 -1933 حيث فرض النظام السوفييتي حصارًا على أوكرانيا وصادر الحبوب بشكل ممنهج، مما أدى إلى مجاعة كبرى أودت بملايين الأشخاص. هذه السياسات الستالينية، التي أيدها لازار كاغانوفيتش الصديق المقرب لستالين، وكانت سببًا في وفاة نحو 4 ملايين شخص، دفعت الأوكرانيين إلى ممارسات مروعة لدرجة أكل جثث موتاهم بحثًا عن أي مصدر للبقاء. كذلك مجاعة البطاطس الأيرلندية الكبرى عام 1845-1852على الرغم من أن هذه المجاعة بدأت بسبب آفة طبيعية بحسب بعض الروايات، فإن سياسات الحكومة البريطانية آنذاك، التي منعت تصدير الغذاء من أيرلندا، تركت الملايين يواجهون الموت جوعًا. ما جعل كثيرين يعدون هذه السياسات تجويعًا متعمدًا لأغراض سياسية واقتصادية، وأدى إلى وفاة مليون شخص وهجرة مليون آخر. هذه السوابق التاريخية والأحداث، تظهر أن سياسة التجويع المتعمد لأغراض سياسية وعقدية واقتصادية ليست مجرد سياسة همجية، بل جريمة ضد الإنسانية، تتكرر فصول مأساتها وضحاياها عبر التاريخ. وأثبتت السوابق التاريخية أن هذه السياسات، التي أودت بالملايين وشردت مثلهم، لم تنجح في محو الشعوب من أراضيها. بل على العكس، زادتهم إصرارًا على البقاء، وكسرت شوكة من حاولوا تهجيرهم، وجعلت من هذه الكيانات والقائمين عليها وصمة عار ولعنة في صفحات التاريخ. وما يحدث في غزة اليوم ليس سوى استمرار لهذا النمط الوحشي. فالكيان الإسرائيلي يستخدم سياسة التجويع كأداة ضغط على الفلسطينيين والعرب لقبول التهجير القسري، وتضعهم أمام خيارات مستحيلة، إما النزوح أو الموت جوعًا أو القتل. ولم يدرك هذا الكيان أن مغامراته الهمجية في قتل الأبرياء وحصارهم قد عرته أمام العالم، وجعلته والشعوب أكثر اصطفافا مع قضية فلسطين العادلة، وجعلت من إسرائيل كيانًا منبوذًا ومثالًا على الاعتداء والهمجية أمام شعوبهم والعالم، وهذا ما كانت نتيجته واضحة في اعتراف بعض الدول بفلسطين كدولة لها حق العيش بسلام وكرامة وحرية. كذلك كشفت عن ازدواجية المعايير لدى شعوب بعض الدول الأوروبية الداعمة له، ووضع هذه الحكومات أمام اختبار صعب في منظومة القيم والمصالح والحقوق الإنسانية والحرية التي لطالما تحدثوا بها أمام شعوبهم، التي بدورها بدأت بالاحتجاج على قرارات حكوماتهم الداعمة لإسرائيل، في الجامعات والمحافل الدولية والمناسبات.

إن التاريخ يعيد نفسه، ليؤكد أن من يمارس هذه الجرائم سيلاحقه العار ولعنة التاريخ إلى الأبد.