أَظهرتِ الثقافةُ الغربيّة على مدى أزمنة الحداثة سَيْلًا هائلًا من المفاهيم سَرَت على حقولٍ وازنة من العلوم الإنسانيّة. مُعظم هذه المفاهيم، بل ربّما كلّها، جرى اختبارُها وإخضاعُها للنقد والمُجاوَزة في التجربة التاريخيّة للحضارة الغربيّة المُعاصِرة. وسنُلاحظ كيف نَشأت أفهامٌ مُستحدَثة من أبْيَنِ سماتها أنّها جاءت مسبوقةً بكلمة «ما بعد» للدلالة على نقْدِها أو تقويضِها لهذا المفهوم أو ذاك.

ولمّا كان الاعتناءُ بالمفاهيم والانشغالُ بها سمةً ذاتيّةً في التفكير الغربيّ، فقد أوشكَت كلمةُ «ما بعد» أن تَصير لازمةً معرفيّة تُمسِك بناصيّته ولا تَترك له فسحةً من راحة العقل. لكأنّما استحالت ثقافةُ الغرب المُعاصر، حين يجري الكلام على «الما بعد»، ظاهرةً زمانيّة، أكثر منها حقيقةً واقعيّة راسخة؛ وإلَّا ما الذي يفسِّر ذاك الذي نَصفه بظاهرة «النّزوع المَرَضِيَّ» الذي يَحمل نُخبَ الغرب على هذا الشغف المحموم للخوْضِ المُستدام في عالَم المفاهيم؟

لَسنا نرى من إجابةٍ مُحتملة عن هذا التساؤل سوى ما يَختزنه العقلُ الغربي من استعدادٍ ذاتيّ لتجاوُزِ حاضره، ولو كان نحو المجهول. نقول هذا لأنّ مُدَّعي التنظير لـ «الما بَعد» هو ككلّ المُدَّعيات السابقة عليه، يَجيء مُحاطًا بسيلٍ عَرِمٍ من التعريفات الرماديّة والاصطلاحات المشرَّعة على التأويل. والَّلافت أنّ جلَّ المفاهيم التي يُعكَفُ عليها الآن في الغرب نظير: ما بعد الغرب - ما بعد بعد الحداثة - ما بعد اللّيبراليّة - ما بعد الميتافيزيقا - ما بعد الأخلاق - ما بعد العقلانيّة - ما بعد البنيويّة - ما بعد العلمانيّة - ما بعد الاستعمار - إلخ... نزلت إلى حقل التداول، وكانت أقرب إلى «تجاوزات معرفيّة» أعربت في مجملها عن الإحساس بعدم اليقين. حقيقةُ الأمر سنَجِدها في ما يتعدَّى حُكمَ الذي يَزعمُ بأنَّ ما يحصل هو أنّها مجرّد لعبة لفظيّة تَفترضها غريزة الأنس بتوليد الكلمات؛ بل هو تعبيرٌ عن وقائع ومعطيات كامنة في اللّاوعي الغربي، يَجري استظهارها من مجمل بنيته المفاهيميّة الحديثة.


كلّ ما سبق للتفكير الغربي أنْ أَنتجه في حقل «المابعديّات» عَمِلَ على إحاطته بمُبرِّراتٍ منهجيّة قصْدَ تجديد حيويّته، ومَنْعًا لاستيطانه في الخواء. مع ذلك ظلّ هذا الحقل يُشكّل لدى نُخبٍ واسعة مَصْدَرَ قلقٍ لا نفادَ له، بل هو لم ينفكّ برهةً عن دفْعِ الغرب في اتّجاه إعادة النَّظر بأصل وجوده، محمولًا على السؤال الأشدّ هَوْلاً حول مآلاته الغامضة.

وبسببٍ من جاذبيّتها الاستثنائيّة، أَوجدت «النّزعة الما بعديّة» مُنفسَحًا خصبًا للتنظير والتنظير المضادّ بين نخب الغرب؛ وهذا راجع، في المقام الأوّل، إلى تعثُّر ظهورها كمنظومةٍ معرفيّة مُكتملة الأركان. لكنّ المشكلة هنا ليست في إخفاق الفكر الغربي، أو عزوفه عن تصنيع المفاهيم والمصطلحات، فذلك ممّا يُشهدُ له في إنجازه، سواء في حقل الفلسفة والاجتماع والعلوم البحتة، فضلاً عن سائر العلوم الإنسانيّة. أصل القضيّة واقعٌ في مَوردٍ آخر.

فعبارة «المابعد» في التكوين الثقافي الغربي تَقترب من كونها قضيّةً كلِّيّة متّصلة بالبنية الحضاريّة الغربيّة وتاريخها الأشمل... وما سَرَيانُها الآن على أرض المُداولات إلّا شاهدٌ على وصول هذه البنية إلى منزلةٍ توشِك أن توضَع فيها الأختام النهائيّة على سجلّها الطويل...

معضلة ما بعد الغرب

لا تَنأى المُداولات التي يَشهدها النقاش الحاليّ حول «المابعديّات»، عن الاستفهام عن ماهيَّة الغرب نفسه، فضلًا عن دَوره ومكانته في الحضارة العالميّة. يتبدَّى السؤال في هذا الموضع، كنوعٍ من الاستقصاء الأنثربولوجي عمّا يتخفَّى من حقيقة ما تنطوي عليه ذاكرة الغرب. ذلك لأنّ الغاية من أيِّ استفهامٍ هي التعرُّف على ظاهرةٍ حضاريّة مُفارِقة تتموضَع في التاريخ والجغرافيا، وتتعالى فوقهما في الآن عيْنِه. وبسبب هذه الخاصِّيَّة الماهويَّة سيَنشأ «نزوعٌ أعراقيٌّ» دَفَعَ الوعيَ النخبوي الغربي نحو تمجيد ذاته الحضاريّة ورفْعها إلى رتبةِ الحضارة المُنْجِية. الَّلافت في هذا السياق أنّ رؤية الغرب، كما هو في الواقع التاريخي، كثيرًا ما دَفعت النظَّارَ إلى مُتاخمتِه كمُنفسَحٍ لملحمةٍ شبه أسطوريّة. من منظورِ هذا النحو صارَ السؤال عن «ما هو الغرب»، أكثر شَبَهًا بسؤال «ما هي اليونان» قَبل عشرات القرون. ومع أنّ لكلٍّ من السؤالَيْن شرطه التاريخي الخاصّ، إلّا أنّهما يَشتركان ويَتقاطعان على دعوى التأسيس لتاريخ البشريّة؛ من أجل ذلك بدا الاستفهامُ عن ماهيّة الغرب ودَوره الرسالي بمثابة استئنافٍ للسؤال البَدئيّ والمؤسِّس عن ماهيّة اليونان. وسيكون لهذه المُعادَلة الاستفهاميّة الأثر البيِّن في وصْلِ الفلسفة الأوروبيّة الحديثة بالغذاء المعرفي الآتي من الحقل اليوناني الأوّل.

هذا ما نلقاه ساريًا في أعماق ما أنجزه الروَّاد المؤسِّسون للحداثة من ديكارت إلى كانط، مرورًا بهيغل وماركس وهايدغر، وصولًا إلى سائر المتأخِّرين من فلاسفة «ما بعد الحداثة». المقصود بهؤلاء على وجه التخصيص، الذين عكفوا على تظهير الدلالة الأنطولوجيّة للذات الغربيّة، ليؤسِّسوا عليها معيارًا للتفكير الجوهري في ماهيّة البشريّة المُعاصِرة. وهكذا سنَرى كيف ترتقي الأطروحةُ الغربيّة إلى مصافِّ كونها مقوِّمًا من مقوِّمات جغرافيّة الروح على حدّ تعبير هيغل، والتي صارت تتحكّم اليوم بمصائر الإنسانيّة كلّها.

الجمعُ كلّه أخذوا بالحجّة نفسها:

فلاسفةٌ ومفكّرون وعُلماء اجتماع آمنوا بثابتةٍ لا جدال فيها، وهي قيام الغرب على تكوينٍ حضاريّ وميتافيزيقيّ، أفضى إلى تفوُّقِ الإنسان الأوروبي على الإنسان الهندي والأفريقي، فضلًا عن سائر الأعراق البشريّة الأخرى... التمثيل الأعلى لمِثل هذا الاعتقاد يَجِدُ تعبيره الصارخ في اكتشاف المُهاجرين البريطانيّين والإسبان أمريكا وتحويلها إلى أيقونةٍ يحكمون بواسطتها العالَم كلَّه.

غير أنّ ما هو مُفارِق في التجربة الأمريكية أنّها قامت أساسًا على الانسلاخ عن أصلها الأوروبي والبَدْءِ بأصلٍ جديد. وهذا هو السبب الذي جَعَلَ التأسيس الميتافيزيقي لأمريكا مدفوعًا بعقدة الاستبراء من مصدرها الأوروبي. وهذا ما أولاه الفيلسوفُ الألمانيّ مارتن هايدغر عنايةً مخصوصة لمّا رأى أنّ العالَم الإنكلوساكسوني للأمْرَكة قرَّر تدمير أوروبا باعتبارها البَدْءِ الخاصّ للعنصر الغربي.

بالولادة الأمريكيّة الخارجة من أصلها الأوروبي والخارجة عليه في الآن عيْنه، تشكَّلت أوّلُ

«ما بَعدية» كبرى في التاريخ الحديث.

تنظيرٌ لخطبة مثلّثة الدوائر

تأسيسًا على ما ذَكرنا، بدا كلُّ تنظيرٍ لاحقٍ يتناول «ما بعديّات» التفكير الغربي محكومًا بمَنهجٍ تتآلف فيه ثلاث دوائر: زمانيّة ومعرفيّة وحضاريّة:

أوّلاً: مقتضى الدائرة الزمانيّة، يُشير إلى التعامل مع تاريخ الحضارة الغربيّة الحديثة بوصفه مجموعةً من أحقابٍ زمنيّة متعاقبة، كلّما انتهت حقبةٌ تولَد من بعدها، أو على أنقاضها، حقبةٌ تالية، وهكذا دواليك...

ثانيًا: مقتضى الدائرة المفاهيميّة، ويتّصل بالتحوُّلات العميقة في عالَم الأفكار؛ الأمر الذي يَجِدُ تمثُّلاته على وجه الخصوص في ما حفلتْ به حقبةُ «ما بعد الحداثة» من نموٍّ هائل للمفاهيم المابعديَّة التي تُشير إلى عُمق الإحساس بعدم اليقين حيال قِيَم الغرب الحديثة.

ثالثًا: الدائرة الحضاريّة، وهي أبرز الدوائر التي استظهَرها الحراكُ الفكري الغربي، ولاسيّما لجهة استشعاراته وتنبُّؤاته بنهاية الحضارة الغربيّة الحديثة وتبدُّدِها. لنا أن نَستحضر على سبيل المثال كتاب «سقوط الغرب» للمفكّر الألماني أوسوالد شبينغلر الذي يتوقّع فيه انهيار الحضارة الغربيّة، ويَصفها بـ «الحضارة الفاوستيّة» (نسبةً إلى يوهان فاوست 1480 - 1540م) التي باعت روحَها للشيطان، مقابل المكاسب المادّيّة والنعيم الاستهلاكي. خلاصة هذا العمل، أنّ الحضارة الغربيّة حقّقتْ سيادتَها العالميّة استنادًا إلى قوّتها الماديّة، وأنّ القرنَيْن التّاسع عشر والعشرين يشكِّلان سقفَ الحضارة الغربيّة، وأنّ نهاية القرن العشرين هي حافَّةُ هذا السقف وبداية الانهيار. غير أنّ شبينغلر، وهو سليل مَوطنه الغربيّ في بُعده العنصري سيُواجِه مشقَّةَ الاعتراف بأنّ ثمّة أُممًا غير أوروبيّة مؤهَّلة للنهوض بأعباء الحضارة العالميّة. ورأى أنّ العلومَ المادّيّة الحديثة هي خاصِّية تكوينيّة يَمتاز بها العقل الغربي الفاوستي تحديدًا وحصرًا. يضيف: وبما أنّ الأمم الشرقيّة روحانيّة، فإنّها غير مؤهَّلة عقليًّا بحسب زعمه لاستيعاب العلوم المادّيّة. على هذا الأساس، تنبّأ شبينغلر بأنّ ما سوف يترتّب على انهيار الحضارة الغربيّة هو الفراغ والفوضى والحروب، حيث سيُواصِل «الفاوستيّون» فرْضَ سيادتهم العالميّة عن طريق القوّة الجائرة وحروب الإبادة.

بالطبع، لن تتوقّف رحلة الكلام عند حدود ما سبقَ الالتفات إليه. الأهمّ هو ما يتعلَّق بالعوامل والمؤثِّرات الفلسفيّة والمعرفيّة في التأسيس لـ «الما بعديّات» جميعًا. ومن البيِّن أنّ التنظيرات الأولى لحقبة «ما بعد الحداثة» لم تكُن سوى تأسيسٍ مُستأنَف للمَسار «الما بعدي» في أفقه الفلسفي. وما كنّا لنَخلع على هذه الحقبة صفة «الما بعديّة»، إلَّا لأنّها انعطفتْ بالحضارةِ الغربيّة نحو مآلاتٍ انقلابيّة عميقة في أنساقها القيَميّة طاولَت ثوابتها الكبرى.

ولو أجرينا مراجعةً تحليليّة مجملة لتلك الحقبة، لوجدْنا أنّ الحضارة الحديثة شهدت انتقالاتٍ جذريّة لم تقتصر على التغيير في السياسة والثقافة وعلاقات الإنتاج، وإنّما امتدَّت إلى منهج التفكير وفلسفة عمل العقل. ولنا في ما قدَّمه الألماني إيمانويل كانط شاهد مبين تَمثَّل بثورة العلم على الفلسفة. لقد رأى الأخير أنّ مهمّته الفلسفيّة العظمى تكمن في تحويل الفلسفة إلى عِلم. أي إلى عِلمٍ ينأى من تجريدات العقل المحض ليُصبحَ حقلاً معرفيًّا موازيًا لبقيّة العلوم الإنسانيّة. وما من ريب، كان كانط بذلك يُمارِس فعلاً مؤسِّسًا لـ«ما بعد الفلسفة» بنسختها الكلاسيكيّة.

ربّما غَفِل إيمانويل كانط عن أنّ سِحْرَ العِلم سيَحجب قسطًا وفيرًا من جاذبيّة الفلسفة، إلَّا أنّ شغفه من بعد ذلك أَوصل التفكيرَ الفلسفيّ نحو مآلٍ لا قِبَل له به. فبدلَ أن تُحفظ الفلسفةُ بوصفها بحثًا دؤوبًا عن حقائق الأشياء من خلال السؤال، جرى تحويلُها إلى علمٍ تَسري عليه المناهج الحاكمة على سائر العلوم الإنسانيّة، كعِلم النَّفس والاجتماع والتاريخ والتربية والفنّ وما سوى ذلك. مع كانط، ومن قَبله ديكارت، لم تَعُد ماهيَّة الفلسفة وهويَّتها على سابق عهدها.

لقد ظَهر جليًّا أنّ الحداثةَ الغربيّة بنسختها «الما بعديّة» ستوظِّف أطروحةَ الإنسان كمركزٍ للكَون، لكنّها ستمضي نحو إخضاعه لأوثان التقنيّة، وهنا ستَبدأ إرهاصاتٌ «ما بعديّة» مُستحدَثة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي سعى بدأبٍ كبير إلى استخلاص الميتافيزيقا من معضلتها الكبرى من خلال إعادتها إلى مهمَّتِها الأصليّة بما هي بحثٌ عمّا يَحتجب من أسرار الوجود. التقنيّة التي أدَّت إلى «نسيان الكينونة» لم تَعُد بحسب هايدغر تشكِّل تهديدًا للمصير الإنساني، وإنّما أيضًا، تبديدًا لأُسس الميتافيزيقا التي انبنى عليها عصر التنوير. ها هنا سيَظهر غربٌ فلسفيّ آخر غير الذي عهدناه في التأسيسات الكبرى لعصر النهضة مع ما سُمِّي «أزمة الأنْسَنة»، أي مشكلة حضور الكائن الإنساني في عصور الحداثة المُتداعية.

لقد كشفتْ تقنيّةُ ما بعد الغرب الكلاسيكي عن مَسارٍ عامّ يَسير نحو نَزْع الإنسانيّة (Disumanzzazione)، وانحطاط قِيَمِها وتهافُت معاييرها. لو نَظرنا إلى حقيقة هذا التحوُّل من زاويةِ فلسفة التاريخ، لألفيناه تأسيسًا لغربٍ من طراز غير مألوف. وهذا التأسيس لم يكُن سوى افتتاح العقل الغربي لبَدءٍ جديدٍ طوى سجلًّا كاملًا أو يكاد من الميراث الميتافيزيقي للغرب المُعاصِر.

*كاتب وباحث من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي