الإنجاز في أصله حاجة فطرية، الإنسان بطبعه يسعى إلى أن يترك أثرًا، أن يرى ثمرة جهده تتحقق أمامه، لكن هذه الفطرة حين تُؤسر في قوالب المجتمع الاستهلاكي وثقافة المقارنات المستمرة، تتحول إلى ضغط نفسي خانق، ما إن ينجز الفرد خطوة حتى يُطالَب بأخرى، وما إن يحقق هدفًا حتى يُسأل: وماذا بعد؟، وكأن القيمة الإنسانية لا تثبت إلا بتجديد الشهادات، ترقيات الوظائف، أعداد المتابعين، أو صور الإنجاز المعلَّقة في فضاء افتراضي.
تغذي وسائل التواصل هذا الهوس بشكل غير مسبوق، كل إنجاز صغير صار يُعرض كحدث استثنائي، وكل نجاح فردي أصبح معيارًا يُقارن به الآخرون، تُصوَّر الحياة وكأنها سباق لا ينتهي، سباقٌ ميدانه الظاهر هو العمل والنجاح، لكن ميدانه الباطن هو الصراع مع القلق وفقدان السلام الداخلي، فالطالب الذي يُنجز معدلاً مرتفعًا لا يسعد طويلًا، إذ تُثقله فكرة المحافظة على هذا المعدل، والموظف الذي يحقق ترقية لا يهنأ بفرحته، إذ يطارد سراب اللقب التالي.
المشكلة ليست في الإنجاز بحد ذاته، بل في تحوله إلى معيار وحيد للقيمة، حين تختزل الذات الإنسانية فيما تحققه، فإنك تضعها في دائرة لا تنتهي من الاستهلاك النفسي، فالفرد يركض باستمرار ليثبت أنه يستحق الاحترام، يستحق الحب، يستحق أن يُرى، هذا ما يجعل الإنجاز يتحول من وسيلة إلى غاية، ومن دافع للنمو إلى قيد يرهق صاحبه.
من منظور نفسي، هذه الثقافة تولّد مستويات عالية من القلق والاكتئاب، فالتوقعات المفرطة تجعل الفرد يعيش في توتر دائم، ويُصاب بما يسميه علماء النفس «متلازمة المحتال» (Impostor Syndrome)، حيث يشعر أنه مهما أنجز فلن يكون كافيًا، وأن الآخرين سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً أنه لا يستحق المكان الذي وصل إليه، وهنا يصبح الإنجاز دواءً مسكنًا، كلما تناوله احتاج لجرعة أعلى، حتى ينتهي في دوامة من الإرهاق النفسي والجسدي.
أما من زاوية فلسفية، فإن ثقافة الإنجاز المفرط تثير سؤالًا قديمًا: ما معنى النجاح أصلاً؟ هل هو تحصيل ما يراه الآخرون إنجازًا؟ أم هو إدراك الإنسان لمعنى شخصي في حياته، ولو كان بسيطًا؟ سقراط لم يكن يلهث وراء الإنجازات المادية، بل كان يرى النجاح في عيش حياة فاضلة، مملوءة بالمعرفة والصدق مع الذات، وسبينوزا تحدث عن السعادة لا بوصفها ثمرة سباق، بل كنتيجة للانسجام بين العقل والرغبة.
الحاجة اليوم ليست إلى إلغاء الإنجاز أو التقليل من قيمته، بل إلى إعادة وضعه في سياقه الطبيعي، وسيلة لاختبار قدراتنا وتحقيق ذواتنا، لا أداة لجلد النفس أو سباق بلا نهاية، النجاح الحقيقي قد يكون في الإنجاز الصغير الذي يمنحنا راحةً داخلية، في عملٍ متقن حتى لو لم يصفق له أحد، في لحظة صفاء مع العائلة، أو في القدرة على قول «كفى» حين يطالبك المجتمع بالمزيد.
ثقافة الإنجاز المفرط تُشبه السراب، كلما ركضنا خلفه ابتعد أكثر، أما الإنجاز المتوازن، فهو الماء الصافي الذي يُروي عطشنا للمعنى دون أن يسلبنا سلامنا الداخلي، والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا ليس: «ماذا حققت؟»، بل: «هل ما أحققه يهبني حياةً تشبعني روحيًا وتصنع لي معنى لوجودي؟».