لعل كتاب «مناهج الأدلة في عقائد الملة» للفقيه ابن رشد، يعد - في ظني - كتابا هاما يميط اللثام عن الوجه الحقيقي لشخصية ابن رشد الغامضة. ابن رشد يكتب بلغة صعبة ويتناول مسائل في غاية التعقيد، ما يجعل قراءته صعبة، وتصنيفه لا يقل صعوبة عن قراءته. دعونا نعترف أن الأوروبيين سبقونا في قراءة التراث الرشدي، وصنفوه وحللوا شخصيته ضمن إطار لا يخرج عن دائرة المركزية الأوروبية. المستشرقون الأوروبيون يصورون اهتمام العرب باليونان والفلسفة اليونانية على أنه دليل على تحضر العرب وتمدنهم، وبالتالي يختزل مشروع ابن رشد في شرح التراث اليوناني في لحظة إعجاب وانبهار. وفي الحقيقة هذه القراءة تستبطن «مركزية أوروبية» ترفض أن ترى اليونان والفلسفة اليونانية كموضوع دراسة من قبل حضارات غير أوروبية.

كثير من الكتاب والمثقفين العرب تشربوا أيديولوجيا الاستشراق حول تراث ابن رشد، وكل من يعتقد أن ابن رشد فيلسوف وتلميذ معجب بأرسطو، هو ضحية لأفكار المستشرقين المتعالية حول الشرق. ونريد هنا أن نناقش كتابه «مناهج الأدلة» الذي يتعرض فيه ابن رشد لتفصيل عقائد بعض المذاهب الفكرية الإسلامية وبالتحديد الأشعرية والمعتزلة. ولأنه يناقش مسائل عقدية فنحن نستطيع تبين موقف ابن رشد الديني من الفلسفة وعلم الكلام وأفكار المعتزلة والأشاعرة. ابن رشد في هذا الكتاب يتخذ موقفا من المعتزلة يبدو وكأنه يتحدث بلسان السلفي الأصولي ويناقش المسائل العقائدية بالطريقة نفسها التي يناقش بها الأصوليون الأدلة الشرعية، ويحاول تقديم العقائد الإسلامية بالأدوات والمنهجية التي يستعملها الفقهاء في أصول الفقه من غير انخراط في جدليات المتكلمين ولا تنظيرات الفلاسفة. ولا يذكر الفلاسفة كأفلاطون وابن سينا ولا يحتج بمنهجيات الفلاسفة لتأكيد صحة أو بطلان أي عقيدة دينية.

يعتقد ابن رشد وبشكل واضح ومباشر أن علم الكلام قد فشل في الوصول إلى الحقيقة لأنه يعتمد مقدمات غير يقينية، بل ويعتقد صراحة أن الظاهر من النصوص يكفي العامة ولا يجوز إشغالهم بأي تأويلات كلامية أو فلسفية، فالأصل حسب ابن رشد حمل النصوص على ظاهرها عند مخاطبة العامة وهو هنا يتبنى وجهة النظر السلفية في التعاطي مع العقائد الدينية. فابن رشد يطرح الأدلة من القرآن الكريم لإثبات العقيدة ويحصر نفسه في إطار النص، ويرى أن من حق الناس أن يتلقوا النصوص على ظاهرها دون تعقيد أو تأويل فوضوي. ابن رشد يعتقد أن النصوص المقدسة واضحة ولا تتضمن أي تعقيدات أو تأويلات غامضة، وبالتالي يكشف عن ميوله السلفية باعتبار أن السلفية نظرية في اللغة تسعى لتنظيم فوضى التاريخ والعودة لفهم العقيدة الدينية في بداياتها قبل أن تتطور وتتحور بفعل الاندماج بين الشعوب ذوي العقائد المختلفة.


السلفية لو نظرنا لها بوصفها عودة إلى المصادر المبكرة للشريعة الدينية، وتوضيح الإسلام البكر عند السلف الصالح وتحديدا فيما يتعلق بمسائل العقائد والمسائل الشائكة كأسماء الله وصفاته، فإن ابن رشد يبدو ذو ميول أصولية واضحة، ولم يخرج عن دائرة فهم السلف للنصوص المقدسة، وبالتالي يمنح النص مكانة قوية في كتابه المهم «مناهج الأدلة في عقائد الملة». فهل كان ابن رشد سلفيا؟