أن يسأل الإنسان عن معنى السعادة، هو أن يسأل نفسه: كيف أعيش؟ فالسعادة ليست محطة نبلغها ثم نستريح، بل هي رحلة ممتدة بامتداد العمر، بينما التعاسة هي إعلان صامت عن الاستسلام، عن إطفاء الرغبة في الاستمرار، عن التخلي عن البحث. إنها أكثر من هدفٍ يُطارد؛ إنها حالة ذهنية، توقٌ إلى حياةٍ ممتلئة، حياة لا تكتفي بالوجود بل تطمح إلى التحقق.

منذ فجر البشرية لم يشك أحد أن السعادة هي الغاية القصوى، الأمنية التي يشترك فيها الجميع على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم. ومع ذلك، لا نكاد نعرف الكثير عن جوهرها: كيف تُنال؟ ما الذي يكوّنها؟ وما الذي يمنحها طابع الاستمرارية لا اللحظة العابرة؟ لعلنا نتفق جميعاً على أنها هدف بعيد، لا يُختزل في بضع لحظات من نشوة أو رضا، بل يتجاوز ذلك بكثير. بعض الفلاسفة اعتبروها الغاية الصحيحة للحياة، لكنهم لم يقدّموها على طبق من تعريفٍ نهائي، بل تركوا لنا مهمة البحث والتنقيب. ما شددوا عليه هو أن سوء الفهم، أو التعامل مع السعادة كمفهوم بديهيّ لا يحتاج إلى تفكير، لا يثمر إلا الخيبة والإحباط.

الحكمة التي نتعلمها من الفلسفة أن السعادة هي أعظم خير، لكنها خير لا يهبط من السماء بلا جهد. إنها تحتاج إلى صبر، إلى مثابرة، إلى زمنٍ طويل من التشكيل والنحت الداخلي. لهذا فهي بحثٌ دائم، وليست قَدَراً يترقبنا عند المنعطف الأخير. إنها أقرب إلى أسلوب حياة، إلى موقف تجاه الأحداث، إلى طريقة لرؤية العالم ولرؤية الذات. لا يمنحها الحظ، ولا يورثها السحر، بل تُبنى بالإرادة والتصميم. السعادة، في جوهرها، هي السعي إلى أن نحيا أفضل ما نستطيع من حياة.


لهذا ارتبطت السعادة، منذ اليونان، بالأخلاق. فالفلاسفة الأوائل علّمونا أن الغاية من الحياة الإنسانية هي أن تكون حياة سعيدة، وهذا لا يتحقق إلا ببناء النفس، وصقل الطبع، وتكوين شخصية متوازنة تُعين صاحبها على العيش في انسجام مع ذاته ومع الآخرين. ليست الأخلاق هنا مجرد قوانين جامدة أو قائمة من الواجبات، بل هي شخصية تُصاغ وتُزرع وتُنمَّى على مدى العمر.

قد يبدو غريباً أن نتحدث عن السعادة بلسان الأخلاق، بخاصة إذا كنا نفهم الحياة الجيدة على أنها مقترنة بالواجبات الثقيلة والتضحيات، بينما نربط السعادة بالمتعة واليسر. لكن الحقيقة أعمق من هذا التعارض السطحي: فالممارسة الجيدة، أيّاً كان مجالها، تحمل في جوفها متعة خاصة. والرضا عن الفعل الأخلاقي، عن الخير لذاته، أوسع مدى وأغنى طعماً من الرضا عن منفعةٍ آنية أو مصلحة فردية ضيقة.

الإنسان ليس كائناً أنانياً محضاً. نحن نحتاج إلى الآخرين كما نحتاج الهواء، ونزدهر بالتعايش السلمي كما نزدهر بالطعام والماء. لا سعادة ممكنة لمن يغلق عينيه عن هذه الحقيقة البسيطة. فالسعادة ليست عزلة مكتفية بذاتها، بل هي نسيج من العلاقات، من العطاء والأخذ، من القدرة على أن نحيا معاً حياةً تُشبه ما نتمنى لأنفسنا وما نتمنى للعالم.