وأذكر في أمسيةٍ صالونيّة بمنزلي المُتواضع، أن حدَّثني فؤاد الترك، ابن «حوش الأمراء» في زحلة، عن شاعرٍ وأديبٍ زحليّ (من بلدة المعلّقة) مهمّ للغاية في رأيه، لكنّه غير معروف بالمعنى الإعلامي الكافي، لبنانيًّا وعربيًّا؛ هو توفيق بن فضل الله ضعون (1883 - 1966)؛ ونَصحني بقراءة ما تيسَّر من كُتبه، وفي مقدّمها كتاب «من وحي السبعين»، الذي شرّفني بإهداء نسخة منه هي واحدة من نسختَيْن نادرتَيْن للكتاب عيْنه كان يحتفظ بهما في مكتبته المنزليّة. والنسختان صادرتان عن منشورات مطابع صادر وريحاني في بيروت سنة 1953. وللشاعر ضعون أيضًا كتبٌ أخرى جديرة بالقراءة كان قد أصدرها في مهجره البرازيلي، وتحديدًا في مدينة سان باولو هي: «هياكل شكسبير» - 1929، «سيرة حياتي» - 1932، و«ذكرى الهجرة» - 1945.
جدير بالذكر أنّ الشاعر ضعون كان قد غادَر بلده لبنان إلى السودان في العام 1904 ليعمل في ماليّة حكوماتها، وقد أمضى هناك عشر سنوات صار خلالها خبيرًا بالشؤون الاجتماعيّة والثقافيّة السودانيّة، غادرَ بعدها إلى البرازيل ليشتغلَ بأعمالٍ حرّة متفرّقة لم يَألفها، فقرَّر إثر ذلك مغادرة مدينة سان باولو البرازيليّة إلى تشيلي (1934 - 1937)، ليُصدِرَ في عاصمتها سانتياغو صحيفةً أسبوعيّة حملت اسم «الاعتدال»، لكنّ هذه الصحيفة لم تُعمّر أكثر من سنة، عادَ بعدها إلى البرازيل ليُصدِرَ صحيفةً جديدة بعنوان «الجديد»، كان نصيبها هي الأخرى التعثُّر والتوقُّف.
والشاعر ضعون الذي كان أحد أعضاء جمعيّة متخرّجي الجامعة الأميركيّة في البرازيل، وعضوًا ناشطًا في «العصبة الأندلسيّة» العربيّة البرازيليّة، كان قد قضى، مع الأسف، بحادثِ سيّارة مروّع في سان باولو.. ودُفن فيها.
أبو شمقمق عصرنا
خلال إقامته الدّائمة في المَهجر البرازيلي، كان الشاعر توفيق ضعون يَخترق لبنان بزياراتٍ مطوّلة، ويَحتكُّ بأدباءِ وأصدقاءِ ومثقّفي زمانه، إنْ في بيروت أو في زحلة نفسها، التي وَجَدَ أنّها كمدينة تكاد لا تزال على حالها لولا تعبيد طرقاتها، وأزقّتها، وما استُحدث في واديها الجميل من المقاهي والمطاعم والأنزال القديمة والمتنزّهات البديعة، وقد أصبحتْ تؤدّي إليها جادّةٌ رحبة مُعبَّدة أُطلق عليها اسم البرازيل، وهي تُحاذي البردوني الذي يَهدر ويُزمْجر في الشتاء والربيع ويتحوَّل إلى سواقٍ مُتغَلْغلة بين الحصى في الصيف والخريف. وخَير ما يُزيّنها الكليّة الشرقيّة ومستشفى تل شيحا الذي قامَ بهِمّةِ «إخواننا الزحليّين» في الولايات المتحدة الأمريكيّة وأريحيّتهم.
أمّا في «المعلّقة» قريته، فقد سَرّه أن تعرَّف فيها إلى خليل دوبا الأديب والشاعر الذي عرَّفه بدوره إلى أندادٍ له هُم: إبراهيم الحدّاد صاحب مجلّة «الدهور»، ويوسف المعلوف، ورفيق دبس من بلدة مشغرة. ولكلٍّ منهم عنده قيمة خاصّة كما يَذكر، فالأوّل أديبٌ طليق الفكر مُجاهِد، والثاني شقيق السيّدة الثقيفة متيل، أرملة ميشال نعمان المعلوف رئيس العصبة الأندلسيّة السابق في البرازيل، والثالث شابٌّ رقيق الشمائل ذو غيرة وحميّة أدّى له خدمات جلّى منها أنّه جَمعه برفيق الحداثة والدراسة في الجامعة يوسف داود طرابلسي.
في ظرف يومَيْن اثنَيْن فقط قرأتُ كتاب «من وحي السبعين» (333 صفحة من القطع الكبير) للشاعر والأديب توفيق ضعون، الذي كان كعادته يتصدّى للقضايا الأدبيّة والفكريّة والاجتماعيّة بأسلوبٍ سهل، ساخرٍ وغير مُمِلّ.. ففي الكثير من مواضع كتابه يُذكّرك، مثلاً، بأسلوب أبي عثمان الجاحظ الذي يَمزج بمهارةٍ بين الجدّ والهَزل واستخدام الاستطراد بشكلٍ فنّي فَكِهٍ وأخّاذ.
يَحكي مؤلِّفُنا أنّ مُصادفات الأقدار ساقَته إلى أن يَلتقي في بيروت بالشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، وقد وَصَفه يومها «بأبي شمقمق عصرنا».. وكان مسرح اللّقاء مكتب صديقه ألبير الريحاني.. يقول «حسبته وقد دخل علينا بزيّه البدوي الساذج ذا حاجةٍ مجهولًا، ولكنّ سرعان ما خابَ حدْسي، إذ ما كان مزوري الكريم يتبيّنه حتّى وقفَ له إجلالاً، وأجرى بيننا التعارُفَ المألوف، فتصافَحنا وجَلس هو على المقعد طاويًا ساقَيْه بعدما حرَّر قدمَيْه العاريتَيْن من نعلَيْه. واستهللتُ أنا بذكرِ أبياتٍ له كنتُ أُعجبتُ بها وحفظْتُها لأنّها صوَّرت لي شاعرًا صنوًا في العزوف عن المادّة، إلّا ما فاتَ منها وسترَ وأظلّ، مع مُراعاة الفَرق الكبير بين أرستقراطيّتي الظاهرة وشعبيّته، بحيث خجلتُ أمامه من نفسي؛ لذلك آنستُ إليه، ورحّبتُ به، وراحَ واسطةُ العقْد يُراقب حركاتنا، ويصغي إلى ما نقول جَذِلاً مُغتبطًا كما يروقُ لعاقلٍ أن يرى مجنونَيْن يتبادلان الآراء». أمّا عن تلك الأبيات فهي:
يا قوم ما لي مشكلٌ معكم
لقد اقتسمنا وانتهى الأمر
لكــمُ الثمـــــار تُبـــــاع رابــحة
ولي المروج الخضر والزهر
ولكــــم سفـــــائنكم مُحمَّلة
في البحر ماخرة، ولي البحر
والقصـــرُ لي منـــه منـــاظرهُ
ولكـــم أثاث القصر والقصر
ولكــم مدينتكم وما ضمنت
ولي النسيم الحلو والعطر
الروح لي فخذوا الجسوم لكم
دنيــاكمُ لكمُ، ولي الشعر
تَجدر الإشارة إلى أنّ الشاعر ضعون، وفي تلك الجلسة التاريخيّة الأولى بينهما، راح كلّما رَسَمَ للشاعر أحمد الصافي النجفي صورةً نثريّة تُعرب عن حقيقته وآرائه ومبادئه، يأتيه في المقابل، وعلى الفور، الشاعر العراقي بمنظومه بِمِثلها شِعرًا سلِسًا رقراقًا لا تعقيد فيه ولا تعاظُل ولا إبهام، وذلك حتّى أزِف وقتُ الانصراف.
وشيءٌ آخر كان الشاعر اللًبناني يُفتّش عنه، وهو أنموذجٌ لشاعرٍ صادقٍ وَجَدَهُ للتوّ كما يقول في الشاعر الصافي المجنون، «لأنّ الكذب أداته العقل؛ لذلك كان والجنون ضدَّيْن لا يلتقيان. فالصافي مرآة تعكس الأشياء كما هي من دون أيّ حيطة أو حَذَر أو خشية ائتمانًا منه بقولٍ حكيم رواه لي عن لسان جعفر الصادق وهو: «مَن تعوَّد ألّا يكذب، رَزقه الله حدْسًا صائبًا ورؤيا صادقة».
من جانبٍ آخر، لا بدّ من التنويه أنّ أديبنا الكبير أمين الريحاني كان قد كَتب فصلًا جميلًا مُسهبًا في كتابه «قلب العراق» عن الشاعر النجفي، ولم يُطق هذا الأخير صبرًا للاطّلاع عليه بُعيد إنجاز صاحب الكتاب كتابه، ما استدعى الأمين، وعلى عجل، إلى أن يغلّف الملزمة التي تحتوي ذلك الفصل من الكتاب ويرسلها إلى النجفي في دمشق معنّونةً كما يلي: «إلى الذي يُشرّف «مقهى الكمال» ويُغنيه بغَير المال.. إلى أحمد الصافي النجفي المُحترَم في كلّ حال».
وفي جانبٍ من مقالته في «قلب العراق» شبَّه الريحاني النجفي بطيرٍ غريب فريد فرَّ من قفص الأَسر في النجف باحثًا عن الحريّة... «إنّه طَير ولا كالأطيار، له منقار البومة، وصدر الورقاء، وجانح الهدهد، وذَنب الطاووس، هو طَيرٌ غريب فريد يُدعى بين الناس بأحمد الصافي النجفي، ويُعْرَف بالشاعر المُجدِّد والشاعر البائس... تنقَّل من كوخٍ إلى كوخ، ومن بلدٍ إلى بلد، ومن مضربٍ في البادية إلى آخر، ومن مضارب البدو إلى مَرابع الحضر، ومن مستشفى لا يُشفي إلى مستشفى لا يَرحم، وهو في كلّ أحواله مجهول غريب... الدمامة أمّه، والسّقم أبوه، والبؤس أخوه، بل إنّ له من الأسقام إخوانًا يقيمون في أعضائه وأعصابه. أمّا الروح منه، فهي سليمة قويّة، بل هي روحٌ جبّارة في هيكلٍ سليم». مع سعيد عقل ومارون عبّود
لم يكُن توفيق ضعون في واردِ اللّقاء بالشاعر سعيد عقل، وهو أصلًا لم يَسعَ إلى ذلك يومًا، مع أنّهما من مدينةٍ واحدة؛ والسبب كما نَستنتج اختلاف المزاج بين الشخصيّتَيْن، وعدم توقُّع ضعون مسبّقًا التفاهُم معه على أمرٍ من الأمور.
وتشاء الأقدار أن يلتقي الرجلان في منزل الوجيه الزحليّ جورج كفوري، فيندم ضعون بُعيد ذلك أشدّ الندم على ما فاته من تجاهُل سعيد عقل، وذلك «لكثرة ما بيني وبينه من الشَّبه في التخيُّل، ووضْع النظريّات في المقام الأوّل، فهو مؤمن بقدسيّة الأدب، يَشجب التطفّل على موائده، ويَحصر مُمارسَته بالأكفّاء».
وعن قصّة لقائه بمارون عبّود ناقد لبنان الساخر والعتيد في كلّ شيء، فيقول إنّه كان جالسًا في مقهى «الجمهوريّة» في ساحة الحريّة في زحلة مع صديقه الشاعر البعلبكي أحمد مهدي حيدر.. وفجأة يَقطع عليه جليسه حيدر كلامَه مُتسائلًا عمّا إذا كان لديه رغبة بلقاء أبي محمّد مارون عبّود، الذي صودف مروره تاركًا المقهى، «فاستعجلتُهُ في اللّحاق به، فأَدرَكَه، وأَقبل النّاقد الساخر المُخيف» قائلاً:
«ما كنتُ لأعود تلبيةً لرغبةِ مُغتربٍ من أساطين المال؛ أمّا والدّاعي الأديب ضعون فعَوْدي مضمون»... وكان لقاءً سريعاً بين الرجلَيْن قال على إثره ضعون: «أطلق عبدكَ يا ربّ بسلام.. ولكنّ الربّ لم يُطلقني فاجتمعت به ثانية».
وليس من التفصيل في شيء أن أذكر ما أكّده لي سعادة فؤاد الترك لاحقاً من أنّه كان على صلة بالشاعر أحمد مهدي حيدر «ابن منطقتنا البقاعيّة، خصوصًا بعدما كنتُ قرأتُ له قصيدةً عروبيّة حضاريّة عظيمة في مجلّة «العرفان» لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزّين». وفهمتُ من الترك، استطرادًا، أنّه كان قد طَلب من الشاعر حيدر أن يُحدّثه عن شِعر صديقه الزحلي توفيق ضعون.. فاستجاب الشاعر حيدر للطلب، وممّا قاله له في تضاعيف كلامه حول الشاعر ضعون، أنّه كان شاعرًا جميلًا ومجنونًا في الوقت نفسه، وقد التقى بشاعرٍ فحلٍ ومجنونٍ آخر هو أحمد الصافي النجفي. ومن عجيب المُفارقات أنّهما اتَّفقا على أمورٍ كثيرة في الشعر والحياة، وذلك بالرّغم من التطيُّر السريع والمَزاجي المفاجئ الذي يَتحكّم بكلِّ واحدٍ منهما.
*باحثة وكاتبة من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي