لماذا اخترت هذه الشواهد من الأدب الساخر بالذات من بين النماذج المتعددة التي أنقلها إلى القارئ العربي من أصوات الأدب السعودي؟

إن ظهور الأدب الساخر دليل ارتقاء في الذوق. ودليل روح تسامت على ألم الحياة فحولته إلى ابتسامة حكيمة تكشف عما وراءها من إدراك فلسفي لمفارقات الحياة وتناقضاتها.

ولا يظهر الأدب الساخر إلا عندما يصل أدب الأمة إلى مرحلة من النضج ينتقل فيها من التعبير البدائي المباشر عن همومه إلى التعبير المتفنن غير المباشر.


والأدب الساخر بعد كل شيء أمتع أنواع النقد الاجتماعي والإنساني فهو ذلك الوخز الناعم الذي يمس الجلد ويحرك فيه الدم دون أن يجرحه أو يؤلمه.

وهو يقول أشياء وأشياء دون أن يلزم نفسه مراحة بأي شيء غير ٠٠ غير الابتسامة اللاذعة.

وتتكون رحلتنا هذه في الأدب السعودي الساخر من محطات متباعدة زمنيًا ونوعيًا:

مع «حمار حمرة شحاتة»، وحسين سرحان في «أديب يسخر من نفسه» ومع الدكتور غازي القصيبي قي تصويره لذلك الكائن الاجتماعي الغريب الذي أطلق عليه اسم «الرشوقراطي».

حمار حمزة شحاتة يذكرنا على الفور بحمار الحكيم، والفرق بينهما أن حمار الحكيم اشتهر من خلال وسائل الإعلام المتاحة للأدب المصري منذ وقت طويل، ولم يشتهر حمار حمزة شحاتة لأنه لم يظهر في كتاب إلا عام 1977 بالرغم من أن تاريخ كتابته يعود إلى أكثر من ربع قرن.

والأهم من ذلك أن الأستاد عبد الله عبد الجبار، المحاضر بمعهد الدراسات العربية بالقاهرة، يرى أن حمزة شحاتة قد سبق توفيق الحكيم، على الأرجح، إلى معالجة هذا الموضوع الساخر.

يقول عبد اللّه عبد الجيار. في مقدمته لكتاب حمار حمزة شحاتة:

«ثم هي بعد ذلك فكرة جديدة، على الأقل في إحساس كاتبها الأديب السعودي. فهو حين كتبها قبل أكثر من ربع قرن لم يكن توفيق الحكيم الأديب الجهبذ قد أصدر كتابه «حمار الحكيم» و«حماري قال لي». وإذا رجحنا أنه قرأ كتاب «خواطر حمار للكونتيس دوسيجور، فإننا نلاحظ أنه لم يسرق من ذلك الكتاب، ولم يتأثر بتلك الخواطر أو المذكرات التي يرجح أن توفيق الحكيم قد تأثر بها واقتبس منها».

ولسنا هنا في معرض تحقيق مسألة الأسبقية بين الحكيم وشحاتة، لكننا نريد التنبيه فقط أن «العمالقة» الذين تألقوا في مرايا الإعلام والنشر في تاريخنا الأدبي الحديث، ليسوا بالضرورة هم الذين يستحقون هذا الوصف. أن الإضاءة الإقليمية المتحيزة قد «لمعت» بعض الأدباء وأجحفت بحق البعض الآخر عندما أبقتهم في الظل، فاقتصرت العبقرية و«العملقة» على قطر عربي أو قطرين، وبدا وكأن الأقطار العربية الأخرى لا روح فيها ولا إبداع. وذلك ما لا تقبل به روح العلم ولا روح العدل. ونأمل أن تؤدي حركة البحث التي تشمل مختلف أقطارنا العربية إلى إنصاف كل موهبة عربية أيًّا كان موطنها.

دون التأثر بمظهر «الانتفاخ»، الذي يحاول أن يظهر به أدباء هذا القطر العربي أو ذاك، مستغلين الدعاية التي أتيحت لهم ولم تتح لغيرهم.

ونعود إلى «حمار حمزة شحاتة» كنموذج رائد للأدب الساخر في الجزيرة العربية لنقرأ منه هذه الأصوات التي تتحدث عن نفسها من الأدب السعودي الحديث:

«في الحمير شيء جدير بالاحترام والدراسة، والعناية بالحمار ليست فضولًا فإنه رفيق الإنسان منذ كانا.. وما نشك أنه من أكثر الحيوانات طيبة، وأن ما دخل على أخلاقه وغرائزه من الشذوذ المنكر إنما جاء من قسوة الإنسان وعنته. وليس هذا وحده ما يجعله أجدر باهتمامنا.. فإن في الحمار جاذبية.. وفيه أناقة ووجاهة يفوقان كثيرًا من الآدميين. وله ابتسامة محجوبة يدركها ويدرك موضع السحر والفتنة فيها كل من يعنيه من أمر الحمير ما عنانا».

«وقد أساء الإنسان فهم الحمار، وركبه بالسخر والدعابة حتى أصبحت كلمة حمار منذ أجيال سبة الآداميين وموضع تنادرهم، والحمار في هذا أخسر الأحياء صفقة مع الإنسان.. ولا تشك أن صدفة من الصدف السيئة قضت على سمعته هذا القضاء الظالم».

1980*

* كاتب بحريني «1939 - 2024».