المرأة التي دخلت سوق العمل لم تدخل بصفة الموظفة فقط، بل دخلت بصفتها رمزًا لتحول ثقافي عميق. وجودها في قطاعات جديدة، من الطيران إلى التقنية، ومن التجارة إلى ريادة الأعمال، يعكس انتقالًا من مرحلة «التبعية الاقتصادية» إلى «الاستقلال المالي».
هذه النقلة تحمل في ظاهرها فرحًا بالقدرة والإنجاز، لكنها في باطنها مشوبة بقلقٍ خفي: هل ستتقبل البنية الاجتماعية هذا التغيير؟ وهل ستتمكن المرأة من أن تعيش حرّيتها دون أن تُثقلها نظرة المجتمع أو ثقل التقاليد؟
هذا التوتر بين الفرح والقلق هو جوهر التحول. داخليًا، تشعر المرأة أنها تحقق حلمًا طالما كان بعيدًا: أن تملك قرارها، أن تختار طريقها، وأن تُثبت جدارتها. لكن هذا الفرح سرعان ما يجاوره قلقٌ من سؤالٍ صامت: هل سيُعترف بي على أنني جديرة حقًا؟ هل عملي يضيف لقيمتي، أم أنني ما زلت محكومة بتوقعات الأسرة والمجتمع؟
أما خارجيًا، فما زالت هناك أصوات تنظر بعين الريبة إلى المرأة العاملة، وتراها وكأنها تُقايض تقاليدها بثمن الحرية. هذه الأصوات تُعيد إنتاج خطاب قديم، مفاده أن دور المرأة الطبيعي يقتصر على البيت، وأن دخولها سوق العمل هو استثناء لا قاعدة. وبين هذين الموقفين، تعيش كثير من النساء حالة «ازدواج هوية»: هوية جديدة تفتخر بالاستقلال، وهوية قديمة تحاول أن تُرضي المجتمع.
من منظور نفسي، هذا الازدواج يولّد مستويات مرتفعة من الضغط النفسي. فالمرأة تجد نفسها مطالَبة بأن تكون ناجحة في العمل، وملتزمة في البيت، ومُحافظة على صورتها الاجتماعية في الوقت نفسه. إنها مطالب متناقضة في كثير من الأحيان، تضعها أمام معادلة صعبة: كيف أكون حرّة ومقبولة في آن واحد؟ هذا الضغط قد يؤدي إلى الإرهاق النفسي والاكتئاب، ويحوّل تجربة الحرية إلى عبء بدل أن تكون نعمة.
ومن منظور فلسفي، يطلّ السؤال القديم: ما معنى الحرية؟ هل الحرية أن يُسمح لك بالدخول إلى سوق العمل؟ أم هي أن تعيشي تجربتك دون خوف من الأحكام المسبقة؟ سقراط ربما كان سيقول إن الحرية الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تُولد من الداخل، حين يتصالح الإنسان مع ذاته ويعرف قيمته. وبهذا المعنى، فإن التحدي الأكبر للمرأة السعودية ليس فقط أن تدخل سوق العمل، بل أن تُعيد تعريف ذاتها بعيدًا عن المعيار الخارجي الذي يحاول أن يحكم عليها.
التحرر الاقتصادي لا يُقاس بعدد الوظائف ولا حجم الرواتب، بل بمدى قدرة المرأة على أن ترى في عملها امتدادًا لكرامتها، لا قيدًا جديدًا عليها. النجاح لا يكون فقط في كسب الراتب، بل في أن يكون العمل تعبيرًا عن الذات، واختيارًا نابعًا من الداخل، لا استجابة لضغط اجتماعي أو اقتصادي.
المجتمع السعودي اليوم أمام فرصة تاريخية: أن يعيد بناء ثقافته حول مفهوم أوسع للإنسان، لا يقيس قيمة المرأة بما تنجزه فقط، ولا يحصرها في أدوار تقليدية. إنما ينظر إليها كإنسانة كاملة، قادرة على الموازنة بين العمل والحياة، بين الطموح والهوية.
وفي النهاية، الفرح بالإنجاز لا يكتمل إلا حين يتحرر من الخوف. والمرأة السعودية، وهي تخطو خطواتها الجديدة في سوق العمل، تحمل في داخلها رسالة أعمق: أن الحرية لا تختصر في فتح الأبواب، بل في أن نجرؤ جميعًا على عبورها، ونصنع لأنفسنا حياة أكثر امتلاءً ومعنًى.