قبل أن تعلن واشنطن رفض منح تأشيرات دخول لوفد السلطة الفلسطينية إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كانت المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن خالفت جميع الأعضاء فشككت بـ«مصداقية ونزاهة» التقرير الأممي عن استشراء المجاعة في قطاع غزّة، معتبرة أن سياسة التجويع «كذبة». ولم توقّع الولايات المتحدة على بيان أيدته الدول الـ14 مطالبة إسرائيل بـ«رفع القيود المفروضة على إيصال المساعدات فورًا ومن دون شروط»، وبـ«التراجع الفوري عن قرارها توسيع عملياتها العسكرية بهدف السيطرة على مدينة غزة».

لا جديد في ذلك، فكل ما يضع إسرائيل في موضع الاتهام مرفوضٌ أمريكيًا، وكل ما يمكن أن يضاعف ملفها الإجرامي أو يشكّل ضغطًا قانونيًا ومعنويًا- أخلاقيًا عليها مرفوضٌ أيضًا. هذه سياسة ثابتة، وقد نفّذتها الإدارتان السابقة والحالية بتطابق حرفي: إذا رفضت إسرائيل مقترحات الوسطاء لتكون شروط «حماس» سبب فشل المفاوضات حتى عندما يضغط الوسيطان العربيان لتذليل تلك الشروط. وإذا كان هناك «جوع» فلأن «حماس» «تنهب» المساعدات... إلى ما هنالك من تبريرات.

الأكيد أن «حماس» تطالب بإنهاء الحرب، وأن العالم يريد أيضًا إنهاءها من دون أن يكون مؤيدًا لـ«حماس» وعودتها إلى حكم القطاع. الأكيد كذلك أن حكومة إسرائيل تتبنى سياسة «حرب بلا نهاية» كي يبقى ائتلافها المتطرّف في السلطة. والأكيد طبعًا أن مروق هذه الدولة والنبذ المتزايد لها وإمعانها في الإجرام هو ما دفع دولًا حليفة إلى اعتزام الاعتراف بـ«دولة فلسطين» خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الحالي.


هذه الاعترافات المتوقّعة أثارت سخطًا إسرائيليًا، وتلقّاها دونالد ترمب كأنها تحدٍ له، تحديدًا لأنها جاءت في إطار «المؤتمر الدولي لحل الدولتين» الذي دعت السعودية إليه وشاركتها فرنسا في رئاسته. بعد مضي يومين على هذا المؤتمر (31/07/2025)، أعلنت الخارجية الأمريكية أنها ستفرض عقوبات تمنع منح تأشيرات لأعضاء ومسؤولين في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لأنهما خالفتا التزاماتهما بـ«اتخاذ إجراءات لتدويل صراعهما مع إسرائيل، مثل اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ومواصلة دعم الإرهاب...».

كان ذلك ردًّا مباشرًا على «مؤتمر حلّ الدولتين» لكنه لم يبدد الزخم الدبلوماسي الذي أحدثه، وكان تسفيهًا للاعترافات بـ«دولة فلسطين» لكنه حفّزها بدل أن يردعها. وجاء رفض التأشيرات لحرمان الوفد الفلسطيني من هذه اللحظة التاريخية لكن فلسطين ستكون ممثلة في أعمال الجمعية العامة. فحجب التأشيرات ليس نهاية العالم لكنه من الفظائع السياسية التي تظهر دناءة الدولة الكبرى وتكشف عداءها الإلغائي للشعب الفلسطيني، إذ لم يعد هناك مجال للتمييز ولو شكليًا بين سياسة أمريكا- ترمب ومخططات بنيامين نتنياهو وزمرة المتطرفين في حكومته، سواء بالنسبة إلى غزة أو إلى الضفة الغربية، وتُظهر الوقائع أيضًا أن لا تباين بينهما في شأن سوريا ولبنان، لأن نتنياهو- وليس ترمب- هو من يقود السياسة.

كان المبعوث الخاص ستيف ويتكوف أجرى محادثات «غير مباشرة» مع ممثلين عن حماس في الدوحة، والتقى نائب الرئيس الفلسطيني حسين الشيخ في الرياض بطلب من السعودية، لكن أي مسؤول أمريكي لم يزر السلطة الفلسطينية في رام الله، كما لو أن واشنطن انصاعت لإملاء إسرائيلي فلم تعد تعترف بهذه السلطة، بل فرضت عليها عقوبات ولا ترشحها لأي دور في المرحلة المقبلة بعد الحرب على الرغم من نأيها التام عن «حماس». إذ لا يزال ترمب ينظر إلى هذه السلطة من الزاوية التي حدّدها له صهره جاريد كوشنير حين كان يجوب المنطقة سمسارًا لـ«صفقة القرن»، ولم يغفر للسلطة رفضها لهذه الصفقة.

لم يكن مفاجئًا ظهور توني بلير في الاجتماع الذي خصّصه ترمب لـ«اليوم التالي» في غزّة، فواشنطن لا تستدعيه لمهمات نظيفة. كان لفتها ظهوره قبل عام مشاركًا في «جهود» تتعلق بتهجير الفلسطينيين من القطاع، ونفى «معهده للتغيير» ما تكشّف عن نشاطه. أما تلك «الجهود» فهي ورشة لرجال أعمال إسرائيليين وأمريكيين مرتبطين بحكومة نتنياهو و«اللوبي اليهودي» الأمريكي، وهي تدرس وتتداول المشاريع المتاحة في القطاع بعد الحرب، سواء بالاستثمار أو بالاستيطان أو خصوصًا بـ«الاستملاك» بحسب تعبير ترمب عن «ريفييرا الشرق الأوسط». وتستند الورشة بشكل أساسي إلى إخلاء الجزء الأكبر من السكان كهدف إسرائيلي لضمان عدم تجدد الصراع. لم يكن قطاع غزة سوى جزء ملحق بـ«صفقة القرن» التي اهتمّت أساسًا بضمّ الضفة الغربية، وهو ما تولّت إسرائيل تنفيذه بتوسيع الاستيطان. ومع أن كوشنير غاب عن الصدارة كما كان في إدارة ترمب السابقة، إلا أنه ظهر في الوقت المناسب -عشية «اليوم التالي»- إلى جانب بلير وويتكوف، كثلاثي مكلف بهندسة مستقبل غزة. ولا مجال لتوقع أي «أفكار» يعرضها هؤلاء على ترمب مستوفين فيها شروط أي قانون دولي إنساني، لذا وجب التكتم عليها.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»