وكل من اطّلع على مسار الفكر يعرف ذلك، ويلاحظ أن المتلقين ينقسمون إلى ست فئات على الأقل:
الفئة الأولى لا تفهم ما تلقته من فكر، وكذلك تحمل تصورات سلبية مسبقة، فتُسقطها مباشرة على هذه الأفكار وتحكم عليها من منطلقها الخاص، وهذه أسوأ الفئات.
الفئة الثانية لا تفهم كذلك، لكنها لا تمتلك أحكامًا جاهزة، ولا موقفًا مسبقًا، فتكون ردة فعلها ضبابية أو مترددة، لكنها على الأقل ليست عدائية ولا متوترة.
الفئة الثالثة فهمت جزءًا من الفكرة فقط، ولكنها اعتقدت أنها ألمّت بالفكرة كاملة، ويكون تفاعلها محدودًا بذلك الفهم الجزئي، مع سوء ظن في الجزء الذي لم تدرك أنها لم تفهمه، وذلك يجعلها تتعامل مع الطرح بطريقة منقوصة، ولكنها مقبولة نوعًا ما، وقد لا يُلام صاحبها.
الفئة الرابعة تفهم الفكرة بشكل جزئي، ولكنها في نفس الوقت تدرك أنها لم تفهم كامل الفكرة، وتعترف بذلك، فيكون تفاعلها قائمًا على وعي بعدم الإلمام الكامل.
وهذه فئة واعدة جدًا، ودائمًا ما يُعقد الأمل عليها، لكونها متحررة من كثير من القيود التي تعيق غيرها.
الفئة الخامسة تفهم الفكرة كما هي، ويتضح ذلك من أسلوب تعاطيها الذي يعكس فهمًا عميقًا ومتزنًا، ويكون تعاطيها مع الفكرة هادئًا ومسالمًا، حتى وإن كانت مختلفة معها بشكل كامل.
الفئة السادسة وهي الأرقى: تفهم الطرح بوضوح، وتضيف إليه أو تعلّق عليه بنقد إيجابي يعكس وعيًا وفهمًا حقيقيًا.
وهذه الفئة، في هذه المرحلة، هي التي تُنتِج التقدّم والترقّي، وبهذه الطريقة تُصقل المعرفة في كل حضارة.
هذا التصنيف لا يخص كاتبًا بعينه، ولا مجالًا فكريًا معينًا، بل ينطبق على كل ما يُطرح من أفكار، وكل من يتلقاها.
ففهم الفكرة لا يُقاس فقط بدرجة الذكاء أو الثقافة، بل أحيانًا يكون متعلقًا بالاستعداد الداخلي والنية تجاه ما يُقال، بل وحتى بالأجواء التي قيلت فيها، والظروف التي تحيط بالمتلقي، والمقدمات التي يملكها.
ولعل من أهم الأمثلة المعاصرة في عالمنا العربي على النقد الفكري في طوره الراقي هو نقد جورج طرابيشي لمحمد عابد الجابري، بل قد يكون المثال الوحيد البارز في العصر الحديث. للأسف، وهي محاولة، رغم ما فيها من عيوب، إلا أنها تسير في المسار الصحيح وتنعش روح الفكر والنقد، كما كانت الحال في القرون الماضية، مثل السجالات الفكرية التي أثارها كتاب «تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي (ت. 505هـ)، والذي انتقد فيه بشدة الفلاسفة المسلمين، وعلى رأسهم ابن سينا والفارابي.
وقد أثار هذا الكتاب موجة من الردود الفكرية، أشهرها «تهافت التهافت» للفيلسوف ابن رشد (ت. 595هـ)، والذي نقد كتاب الغزالي بقوة وبمنطق برهاني.
ثم جاء علاء الدين الطوسي ليكتب شرحًا على «تهافت الفلاسفة»، ناقدًا الغزالي وابن رشد معًا، بكتاب يحمل أيضًا نفس الاسم (تهافت الفلاسفة).
وتلاه خواجه زاده، الذي كتب أيضًا في الرد على الجميع، وحاكم الغزالي وابن رشد، وغيرهم ممن حاولوا التعاطي مع فكرة كتاب الغزالي وأفكار خصومه.
بل حتى إن مشاركة ابن تيمية نفسه في هذه الملحمة في كتابه «درء تعارض العقل والنقل» كانت مشاركة فكرية قائمة على لغة وقواعد المنطق المحض، حاكم فيها من سبقه بميزان العلم والمنطق، بغض النظر عن النتائج التي توصّل إليها أو الموقف الذي كان يدافع عنه.
ولم يَسلَم من نقده ابن رشد ولا الغزالي، إذ عمد إلى تمحيص أفكارهما بميزان المنطق والعلم.
وهذه هي الطريقة التي تُصقَل بها الأفكار، وهذا هو السبيل نحو بناء الحضارة والترقي، وهذا المسار هو أكثر ما ينقصنا اليوم، والأمة في أمسّ الحاجة لإحيائه.
إن هذه الملحمة الفكرية التي أشرنا إليها هي من أكثر حلقات حضارتنا إشراقًا ورقيًا.
وللأسف، أساء بعض المؤرخين المعاصرين لهذه المسيرة العقلية المشرقة، وصوّروها بنفس الصورة المشوّهة التي قالها أحد المستشرقين المتعجلين، والذي بترها من مسارها ليثبت شيئًا يعتقده مسبقًا، وتغافل عن أن الغزالي ما كان إلا حلقة في سلسلة من سبقوه في نقد أفكارهم بأقوى أدوات المنطق والفكر السليم.
وكذلك أهمل هذا المستشرق باقي القصة التي تلت كتاب الغزالي واستمرت لقرون طوال، سماها «عصر الانحطاط»، وهو العصر الذي بُنيت فيه مراصد فلكية كانت تُعد الأعظم في تاريخ الفلك إلى ذلك الحين، وازدهر فيه الطب، وبُنيت فيه مستشفيات كانت تُعد من أرقى ما أُقيم في تاريخ الطب إلى ذلك الحين، وغيرها من المؤسسات العلمية التي بلغت ذروة ما وصل إليه العقل البشري آنذاك. ليردد المقلدون من بعد هذا المستشرق نصوصه هذه دون إعمال عقولهم فيها.
وإذا كان هناك عصر يستحق نعت «عصر الانحطاط»، فهو العصر الذي يُؤخذ فيه نص هذا المستشرق وأمثاله كنص مقدس فوق النقد. وبالمناسبة، من هذا الباب نفهم قضية كبرى، ومهمة ومن الجيد إثارتها في هذا السياق، وهي فهم القرآن الكريم. فبطبيعة الحال، لا يمكن لأي عقل بشري – مهما بلغ – أن يحيط بكامل مقاصد القرآن ومراميه النهائية، لأن بين القائل سبحانه والمتلقين هامشًا لا محدودًا (حرفيًا). ولهذا، فإن العقلاء يسعون أن يكونوا من الفئة الخامسة أو الرابعة في هذا التصنيف: أي أن يفهموا قدر استطاعتهم، ويعوا أنهم لم يُحيطوا بكل شيء فيه، ويتعاملوا مع النص بروح التواضع والتأمل، لا الادعاء والإحاطة.
ومن العجيب أن نرى اليوم بعض من يضعون أنفسهم خصومًا للدين والقرآن، يصدرون أحكامًا شاملة عليه بكل ثقة وتبجح، وهذا المتبجح الواثق من عقله لا يستطيع إعراب جملة (بسم الله الرحمن الرحيم). واللغة العربية ليست سوى واحدة من مجموعة الأدوات التي يجب توفرها في المفسر، وبالتالي في الناقد، ومع ذلك يصدرون أحكامهم بكل ثقة، لأنهم من الفئة الأولى بكل وضوح.