خلال ندوة عقدها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات في الرياض بين عدد من السعوديين وباحثي مركز كارنيجي في يناير الماضي، تحدث كل من د. مروان معشر (وزير خارجية الأردن السابق ونائب رئيس المركز للدراسات) ود. محمد فاعور (أحد كبار الباحثين في المركز المتخصص في التعليم) خلال جلسة حول إصلاح التعليم عن فكرة مثيرة للانتباه، وهي أننا نعاني من نمط الاستهلاك حتى فيما يتعلق بالتعليم، والمملكة على وجه الخصوص يتضح فيها تفشي هذا النمط.

ضرب د. مروان معشر مثالا بالغ الدلالة حيث قال إننا قمنا بإنشاء معامل للعلوم مثلا في مدارسنا وجامعاتنا على أحدث طراز وباستيراد آخر التقنيات الحديثة، ولكننا في نهاية المطاف لسنا سوى مجرد مستهلكين لهذه الأجهزة، ومستهلكين للعلم الذي نتلقاه لا منتجين له، قد نستخدم الأجهزة في المعامل التي بين يدينا بكفاءة كما تعلمنا ودربنا عليها صانعوها، ولكن تظل عقلية الطالب استهلاكية لأن نظام التعليم يعلمه استخدام الجهاز أو المعمل ضمن إطار جامد واستخدامات محددة وليس إطارا مرنا يحفز على الابتكار أو الإبداع في استخدام الأجهزة والمعامل لإنتاج علم أو شيء جديد. الفكرة هنا هي أن نظامنا التعليمي على سبيل المثال قد يعلمنا استخدام الآلة أو الجهاز أو المعمل فقط ولا يعلمنا كيفية فهم جوهرها أو استيعابها لجعلها وسيلة للانطلاق نحو إنتاج علمي جديد. المشكلة هنا هي في عقلية تعودت على نمط قاس من مجرد الاستهلاك وعقلية تعودت على الإنتاجية بغض النظر عن حداثة ما تحت يديها من تقنية أو أجهزة. هناك مثل شعبي ظريف يقول: "الشاطرة تغزل ولو برجل حمار".

هذا النمط الفكري الاستهلاكي الذي ضرب بنيتنا الاجتماعية بقسوة لا ينعكس فقط على مجال التعليم، بل بات جزءا راسخا ومكونا لمجتمعنا في كل المجالات بما فيها سياساتنا العامة.

إنشاء معامل على أحدث طراز لا يعني تقدما علميا، وشراء تنمية عمرانية لا يعني تقدما حضاريا. مشكلة الاستهلاك ليست الاستهلاك بحد ذاته وإنما نمط التفكير الاستهلاكي الذي أفسد قدرتنا على التفكير الإنتاجي في المقابل. هناك قصة متواترة عن الملك فيصل وبغض النظر عن مدى صحتها من عدمه فإنها تظهر بجلاء جوهر هذه المشكلة. يقال إنه عندما تم تقديم مشروع الخطة الخمسية الثانية للملك فيصل سأل من الذين أعدوا الخطة؟ فقيل له: إنهم خبراء أميركيون وأوروبيون، ثم سأل من الذي سينفذها؟ فقيل له: شركات أميركية وأوروبية، ثم سأل من سيشرف عليها ويراقبها؟ فقيل له: استشاريون وبيوت خبرة أميركية وأوروبية، فقال الملك فيصل: "ذبحوا وطبخوا وأكلوا" في تعبير عن عدم رضاه. بغض النظر عن مدى صحة هذه القصة فهي تظهر جوهر مشكلتنا التنموية الحقيقية، وتبرز بجلاء آفة النمط الاستهلاكي في تفكيرنا الذي لا يزال قائما.

صديق لي متخصص في إدارة المشاريع أورد ملاحظة ذكية حول سياستنا العامة اليوم تبرز تفشي نمط التفكير الاستهلاكي لدينا في مقابل التفكير القائم على مبدأ أن نكون منتجين. اليوم تبتعث السعودية ما لا يقل عن 100 ألف طالب للدراسة في الخارج، ومن جهة أخرى لدينا على الأرض اليوم واحدة من أكبر خطط التنمية القائمة وعقود الشراء مع كبرى شركات العالم، لماذا لا يتم اشتراط تدريب هؤلاء الطلبة المبتعثين في هذه الشركات كجزء من عقودنا معها، لماذا لا نضع سياسات قائمة على نمط تفكير إنتاجي؟ لدينا طلبة في الخارج نحن بحاجة إلى تدريبهم وصقل مهاراتهم قبل عودتهم، فلماذا لا نجبر الشركات العالمية التي لديها عقود معنا بملايين ومليارات الدولارات على تدريب أبنائنا ونقل جزء من الخبرة لهم؟ هذا الصديق يورد مثالا لفكرته. لدينا في المملكة اليوم مشروع إسكان حكومي ضخم يفترض فيه إنشاء 500 ألف وحدة سكنية، ومشاريع بنية تحتية كمجاري السيول والطرق والسكة الحديد التي تنفذها شركات أجنبية، لماذا إذاً لا يتم في هذه المشاريع الضخمة اشتراط تدريب الطلبة السعوديين المبتعثين في بلادهم ضمن عقود هذه المشاريع؟ أو رفع نسبة تدريب الطلبة السعوديين داخل المملكة في مثل هذه المشاريع القائمة. أين سنحصل على فرصة أخرى بهذه الضخامة تتمثل في أن تكون البلد بأكملها ورشة عمل كبيرة، ومتى سنعمل على نقل الخبرة الحقيقية لأبناء البلد وإنشاء جيل قادر بشكل كامل على تحمل عبء التنمية ومثل هذه المشاريع؟ وزارة الإسكان والعمل والمواصلات وغيرها من القطاعات الحكومية المعنية أين هي عن الدفع بسياسات قائمة على الإنتاجية ونقل التقنية وتوطينها بدلا من هذا النمط الاستهلاكي القاسي الذي نعاني منه؟

أن نكون منتجين هو أن تكون يدنا في الذبح والطبخ والأكل، ويكون نمط تفكيرنا متسقا مع هذا الاتجاه، ومعتمدا على إشراك ومشاركة أبناء الوطن كي يصبحوا منتجين أيا كان مجال عملهم بدلا من مجرد مستهلكين بسبب اعتمادنا الدائم على مصادر خارجية. وللأسف هذا النمط الاستهلاكي المتفشي يبرز في كل مجال دون استثناء.

اليوم جيلنا هو جيل غير منتج، لأنه وليد نمط تفكير استهلاكي قاس جعله غير قادر على الإنتاج، فيما يتعلق بمشاريعنا التنموية أو ما يفترض أنها مصانعنا ومعاملنا ومراكز أبحاثنا في جامعاتنا. وللأسف فإنه في الوقت الذي يقوم فيه عدد من الدول العربية وخاصة الخليجية بتعديل هذه الأخطاء من خلال إشراك أجيالها الصغيرة وتعديل نمط التفكير الاستهلاكي هذا، فإننا في المقابل نعود لتكرار نفس خطأ الطفرة الأولى ونفوت الفرصة لكي نصنع جيلا منتجا لا مستلهكا.