فمضامين أبحاث الكتاب معقدة، متنوعة، مُثيرة للجدل كقضايا النساء منذ الخليقة، ولادة تساؤلات، وممتدة في الزمن كامتداد التطور التكنولوجي السائر كطرفة عين، أشبه بحقل مزروع بألغام اجتماعية، جندرية، سيبرانية، ثقافية.
والبدهي في طرح افتراضنا هذا، كم من الأسئلة رافقت النصوص ونَبعت منها، بما يحتمل دعوة التحضير لكتاب ثانٍ يستكمل أبواب النقاش لأهمية أجندة النساء العربيات، قد تكون «الرقمنة» أهون المُثار من بينها، فما الحال مع تبعات الحروب عليهن، وتراخيهن في عالم تطور الوعي والمُكتسبات، إلى محاولات ترسيم القديم/ الجديد/ المتجدد: النسوية كعالم له عوالمه!.
تستدعي قراءة الكتاب (508 صفحات) إطلاق صفة الجمال بمعناه الإنساني/ الواقعي/ الأخلاقي على ما لمحناه في طيات الصفحات من: إهداء إلى «روح زميلتنا نازك سابا يارد»، كميزة في الوفاء، وأنه «من محاسن المصادفات أن اللجنة المعنية بتحرير الكتاب تألفت من جيلين: باحثات شابات دخلن العالم الرقمي وهن في مُقتبل العمر، وباحثات متقدمات في العمر دخلن العالم الرقمي في مرحلة متأخرة، ما جعل التفاعل بين الأجيال واضحًا في ثنايا الكتاب كإعلانٍ عن ديمقراطية النقاش»، و«تجاوز حالة الانبهار بعالَم التكنولوجيا، وأيضًا التخوف منه»، كتأكيدٍ على واقعية النظرة، وعلى «أن البيئة الرقمية غير قادرة على إلغاء الفوارق المؤسسة على أرض الواقع»، كأن في ذلك شرطًا مُسبقًا لاستمرار التحدي، وأن «النساء لسْنَ كتلة واحدة متشابهة» على اعتبار أنه اعتراف موضوعي، و«أن المرجعيات على أرض الواقع ليست ثابتة وأبدية ونهائية» كصفة خلدونية، و«أنه كان من مفاعيل اجتماع الرقمَنة واللبرَلة إشاعة مناخٍ من الفوضى الخلاقة»، كواحدة من نتائج النيوليبرالية، و«بعدما أدخلت جميع القيم الإنسانية في عالم الاقتصاد والتسويق» كمتغير مُثير للقلق، إلى «ما شهِدنا من حرب إبادة جماعية شنها المحتل الإسرائيلي على قطاع غزة المُحاصَر، وما رافقها من مجازر بحق النساء والأطفال شغلت حيزًا كبيرًا من تفكير المُشارِكات في الكتاب»، كعلامة انتماء إنساني.
وإذ عملتْ لجنةُ تحرير الكتاب «مؤلفة من زينب خليل، لمى كحّال، مود أسطفان هاشم، نهوند القادري عيسى» على تقسيم فصوله إلى أربعة محاور:
1 - «مُساءلة النساء للمرجعيّات وإغراءات الفضاء الرقمي».
2 - «سلوك النساء المعلوماتي وأصواتهن في العالَم الرقمي».
3 - «تحديات تفلُّت النساء من المرجعيّات في البيئة الرقميّة».
4 - «شهادات في اهتزاز المرجعيات وانعدام اليقين».
وكتاب «دانيال بوا» مُترجَمًا من الفرنسية حول «المعلومات من الكائنات الحيّة إلى الرقمية: الإنسان في وجه التعقيد»، فإنّ أساليب مختلفة في توليفة النصوص والأبحاث اعْتُمِدَت كمنهجيّة، حيث نرى نهوند القادري تَطرح أسئلة/ استبيان على مجموعة من النساء تمحْورت حول استخداماتهنّ الإنترنت وطرائق بحثهنّ عن المعلومات، وما حققته لهن على صعيد الحياة الشخصية من: ثقة بالنفس، تزايُد الانفعال، الشعور بالأمان، الاستقرار النفسي، المعلومات والاستعراض الذاتي، حريات التعبير، النقاش العقلاني، الانفتاح على الآخرين، التشكيك بالآخرين والفضول لمعرفة آرائهن، المعلومات والتخلي عن العلاقات الاجتماعية، لتصل في تحليلها إلى أن الأغلبية من اللواتي طُرحت عليهن الأسئلة أقررن بأن المعلومات دَفعتهن إلى تغيير النظرة إلى المرجعيات، وأن الفضاء الرقمي كان كاشفًا للكثير من الأقنعة ومؤسسًا لأخرى، لتخلصَ إلى أن المجموعة التي طَرحت عليها الباحثة أسئلتها تشمل أمهات مُتعلمات وعاملات يَستخدمن الإنترنت بكثافةٍ عالية وهاجرنَ إلى الفضاء الرقمي إنما بقيْن مشدودات إلى أرض الواقع.
ومن هذه الخلاصة تكر سبحة أسئلتنا: هل يمكن أن ينفك العالَم الواقعي عن الافتراضي؟ وماذا لو لم يَقتصر كتاب تجمع الباحثات اللبنانيات على النساء والرقمنة، فهل كان لنتائجه أن تأتي مختلفة؟ باعتبار أن الرقمنة وثورتها عاثت سلبًا وإيجابًا بالفرد لأي فئة عمريّة أو بيئة «ريفيّة أو مدينية» انتمى؛ وهل يَعني استخدامُ ما أنتجته الثورة الرقمية إنجازًا في مسيرة الحضارة الإنسانية، ثقافيًا واجتماعيًا، ولاسيما أن الشرط الأخلاقي لهذا الاستخدام باتَ على محك خداع الإنسان وفنائه معنويًا وجسديًا؟!.
نُشير في هذا الصدد إلى كثرة ما تزخر به النصوص من تصريح عن هذه المخاطر ومن تلميح إليها، أي نسبية المعطى الإيجابي للثورة الرقمية على النساء، هذا ما قرأناه في استنتاج نصر الدّين لعياض بقوله «إن تبدل المرجعيات أثقل على النساء منه على الرجال»، وفي توقف رفيف رضا صيداوي عند مسألة جوهرية تتعلق ببقاء حقوق النساء في إطار الشعارات «في زمن التوق إلى بناء الدولة الوطنية أو القومية بعد الاستقلالات إسوة بدول الغرب الديمقراطية جراء الانخراط في الحداثة».
والحداثوية التي قاربتها زينب خليل من زاوية بحثها بعنوان «طالبات جامعيّات متحدرات من الأرياف: بين البيئة الجامعية والبيئة الرقمية» جعلتنا نَطرح السؤال الأبرز: طالما أن الشبكة العنكبوتية، وما نَتج منها وعنها من وسائل تواصل قد تسللت إلى كل البيوت بتنوع توجهاتها، والمناطق بكل تضاريسها، ألا يكون طرح الموضوع بالتساوي بين امرأة ريفية وأخرى مدينية طَرحًا غير آمن!؟.
بمعنى أن تحصل طالبات الريف من الثورة الرقميّة بات متوافرًا، كما لو أنها في قلب أية مدينة، في حين أن مسألة انعكاس هذه الثورة لن توفر للريفية كما للمدينية النتائج ذاتها، باعتبار أن الصدمة الثقافيّة والاجتماعية في كلا الحالتين لن يكون بتأثير الثورة الرقمية، إلّا من بعض جوانب مشتركة، مع أن خليل أشارت إلى «إشكالية الدراسة عَبْرَ طرح السؤال عن الدور الذي أدته كل من المعلومات المُكتَسبة عبر الإنترنت والبيئة الجامعية في علاقة الطالبات القادمات من الأرياف وبيئتهن ومرجعياتها».
وفي حين أعادت بيسان طي إلى الخبير التكنولوجي «جيف بيركو فيتشي» مصطلح «السوشيال ميديا» في تسعينيات القَرن العشرين، فإن «القوقعة» مثَّلت محورَ بحثها «بما يؤدي إلى حصْرِ المُستخدِمين في غرف الصدى»، واستنتجت أن «اختلاف قواعد خوارزميات المنصات بعضها عن بعض هو ما يُفسِّر اختلاف المعروض أحيانًا، بل واختلاف الرقابة في أحيانٍ كثيرة، وفي هذا المضمار، فإنّ المثال الأقوى نعرفه من التجربة المؤلمة التي عايشناها في منطقتنا العربيّة خلال العدوان الإسرائيلي»الوحشي«على قطاع غزّة منذ 21 أكتوبر 2023 مُستمرّاً في العام 2024 وفق ما وثقته تقارير جهات مُختصة، فإن شركة ميتا المالكة لمنصتي فيسبوك وإنستغرام فَرضت رقابةً شديدة على المحتويات المُناصِرة للفلسطينيين، والفاضحة لوحشية العدوان الإسرائيلي ضدهم فتم تقييد بعض المحتويات وإقفال بعضها»، لتعود وتَطرح السؤال مجددًا: أي أفقٍ بلغتِ النساء في تحررهن من الأُطر التقليدية عَبْرَ أدوات مُحددة هي وسائل التواصل الاجتماعي؟، وتجيب بما قاله العرب قديمًا في أن كل امرئ يميل إلى شكله!.
علامة فارقة بين الأبحاث
وفي سياق قواعد خوارزميات المنصات، شكل نص تغريد السميري «مشوار ستي: ترحال الذاكرة الفلسطينية في الفضاء الرقمي» علامةً فارقة بين الأبحاث المنشورة، لجهةِ توقفه عند إيجابية الرقمنة؛ إذ تشير إلى إفادة النساء الفلسطينيات من وسائل التواصل الاجتماعي والعالَم الافتراضي «لأن هؤلاء النساء انتقلْنَ من جيل أسلوب التعبير الشفوي بسردِ ذكرياتهن كمرجعية» لدى الجيل الأول للنكبة، وقررن اقتحامَ الفضاء الرقمي ليُعِدْنَ «بناءَ الذاكرة الفلسطينيّة وإحياءها أيضًا»، وذلك عَبْر «الذاكرة الناعمة» على حد تعبير تغريد السميري، التي جاء عرضُها لبرنامج «مشوار ستي»، الذي قدمته الفنانة/ الطبيبة الفلسطينية، دلال أبو آمنة، متوافقًا مع ما نقلته رانية جواد ومادلين الحلبي من «شهادات حية كتبتْها نساءٌ فلسطينيات يروين من خلالها تجربتهن في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإسماع أصواتهن»، وكيف أن الغزاويات يتحايَلْنَ على سياسات المنع فيَسعين «إلى رفع التعتيم وسرد يومياتهن».
ما جاء في نصوص كل من السميري وجواد والحلبي يُفضي بنا إلى طرْح السؤال التالي: إذا كانت المرجعية الرقمية قد أكدت فعاليتها، فلماذا تتعامل النساء العربيّات في أوساط كثيرة مع العالَم الافتراضي بالقليل من الجدية والكثير من الاستهلاكية والاستعراضية؟.
قد يتوافق سؤالنا هذا مع استنتاج، مود أسطفان هاشم، في بحثها «إسهامات النساء في الأبحاث المتعلقة بالسلوك المعلوماتي: تجديد في المُقاربات»، إذ تقول عن دَور النساء العربيات: «يبدو أن تأثيرهن ما زال ضعيفًا، إذ بقيت أغلبية الدراسات في المنحى التقليدي تتمحور حول استخدام مصادر المعلومات، ولاسيما الشبكات الاجتماعية، وغالبًا ما اقتصرَ تحليل السلوك المعلوماتي على أثرِ متغير الجندر مع غيره من المتغيرات»، مُبررَة ذلك بأنه يعود إلى حداثة هذا العِلم وأصوله المهنية والعملية كما إلى هيمنة المُقارَبة التكنولوجية عليه، ومُستدركة أن «بعض الدراسات مثلت بوادر تجديد».
ربما يتقاطع هذا الاستنتاج مع سؤالِنا أعلاه، وما خلُصت إليه هاجر خنفير التي قللت «من دور النساء في صناعة محتوى مؤثرٍ.. تحديدًا النساء العربيات»، لتستنتجَ وتقول «يتجلى لنا وبيسر، من منظورٍ نسوي تكنولوجي، أن صناعة المحتوى لدى المؤثِّرات العربيات وامتلاكهن أدوات التكنولوجيا لم يَسمح لهن بتغيير الصورة النمطية للأنوثة لكونها معطىً استهلاكيًا لا غنى للسوق عنه».
أما بحث لمى كحال بعنوان «صانعات محتوى لبنانيّات على مواقع التواصل الاجتماعي: اليد الطولى لمرجعية السوق»، فيَجعلنا نَستنتج أنَّ ما خلصت إليه يتماهى مع عددٍ من أبحاث الكتاب حول سيطرة التكنولوجيا التي تَجعل المحتويات في خدمة أصحابها من الرأسماليين، فيما استخدامات النساء المؤثرات تشير إلى غياب القضايا الإنسانية والاجتماعية العامة في السياق اللبناني.
تقول لمى كحال: «نتلمّس عُمق الهوة بين الواقعي والافتراضي، ذلك أننا لم نَجِد حسابًا واحدًا مخصصًا للحديث عن فلسطين والحرب على غزة ضمن العينة التي درسناها»، وتضيف: «قد يكون هناك ذكر عابر لغزة في صفحة مايا حسين على انستغرام، وهي تدعو الناس لمُقاطَعة البضائع الدّاعمة لإسرائيل من دون أن يتعدى الموضوع ذلك».
في بحثها «صانعات المحتوى في مصر ومَوجات التضامُن مع غزة: بين الواجب الإنساني والديني وشروط السوق»، يتشابَه ما توصّلت إليه دينا الخواجة مع استنتاج معظم الأبحاث حول مُمارسة الرقابة والمنْع من «الشركات الممولة» لصفحات صاحبات المحتوى لإسكات أصواتهن.
أما في المحور الثالث من الكتاب بعنوان «تحديات تفلُّت النساء من المرجعيات في البيئة الرقمية»، فتُبرز عزة الحاج سليمان في بحثٍ قانوني كيف استطاعت النساء أن يفعِلنَ وجودهن من خلال الوسائط الرقمية، ولكنهن «وجدْنَ أنفسهن ضحيةً لأدوات السوق».
ولَفتت زهور كرّام إلى «التحديات الجديدة لنساء المغرب»، فيما حمَّلتْ إصلاح جاد «نجاح الحَملات الدينية ضد اتفاقيات سيداو» مسؤولية عدم نَيْل المرأة الفلسطينية حقوقها، وأضاءت إيمان كنعان على «مكاسب المرأة من معلومات الصحة الإنجابية».
واستخدَمت كلثم غانم «منهجية مراجعة الأدبيات لتحليل العناصر البصرية والثقافية العامة في قطر، وتحديدًا اللوحات الإعلانية وآثار ثقافة الاستهلاك في صور المرأة»، وكان للمحور الرابع من الكتاب شهادات لسبع نساء خضن عالم الثورة الرقمية: سوسن جميل حسن، نجلاء حمادة، أمال حبيب، جميلة جابر، ناتالي إقليموس، ومنى سكرية.
* صحافية لبنانية
* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي