لعب العامل الاقتصادي دوراً هاماً في بداية وتطور أحداث "الربيع العربي" بشكل عام، فبالإضافة إلى الثورة على الاضطهاد والقمع والسعي للوصول إلى نظام ديموقراطي يضمن حريات الشعوب، كانت الجماهير العربية التي احتشدت في الساحات والميادين تسعى أيضاً لضمان حد أدنى من الكفاية الاقتصادية بعد معاناة طويلة مع البطالة والفقر. وقد نشرت مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي في نوفمبر الماضي دراسة أعدها الباحث إبراهيم سيف عن الاقتصاد المصري في المرحلة الراهنة، وما يتوجب على الحكومة القادمة في مصر أن تقوم به من أجل إحداث تغييرات إيجابية تحقق بعض طموحات الشارع المصري.
تقول دراسة كارنيجي إن الاقتصاد المصري يمُر بفترة حرجة، في وقت تتحوّل فيه البلاد إلى الديموقراطية. وفي حين أن التحوُّل من السلطوية يلقى ترحيباً بالتأكيد، إلا أنه أثار عدم استقرار لم تعرفه مصر على مدى السنوات الـ30 الماضية. ويمثّل تنفيذ الإصلاح الاقتصادي في ظل عدم اليقين هذا تحدّياً على وجه الخصوص، فيما تحظى المطالب السياسية بالأسبقية. حاولت الدولة مرات عدّة إنعاش الاقتصاد المصري منذ انتهاج سياسة الانفتاح، أو "الباب المفتوح" التي بدأها الرئيس أنور السادات في منتصف سبعينيات القرن الماضي. وساهمت برامج الإصلاح المتعاقبة، على الرغم من فشلها، خلال السبعينيات في تفشّي الفقر الذي كان بمثابة المحرّك الأساسي للثورة المصرية في عام 2011. ويمكن لخبرات وتجارب الماضي أن تقدّم دروساً مفيدة لما يتعيَّن تجنُّبه في المستقبل، لكن تجربة الماضي غير قادرة على تبيان ما ينبغي القيام به بالضبط.
وتضيف الدراسة أنه يمكن تسهيل عملية انتقال ناجحة إلى الديموقراطية من خلال اقتصاد سليم يحقق رفاهاً اقتصادياً للمواطنين. والحقيقة أن الحكومة الانتقالية التي يقودها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يتولى إدارة البلاد إلى حين اكتمال إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، تواجه تحدّيات هائلة. ومع ذلك، سارعت وعلى نحو لا يتّسم بالحكمة، إلى تلبية المطالب الشعبوية للثورة، من دون أن تأخذ التأثيرات طويلة الأمد لذلك بعين الاعتبار. وفي حين أنها قد تكون ملائمة سياسياً، فإن التدابير التي جاءت كرد فعل - مثل الزيادة الحكومية الأخيرة في الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام، وتمديد العقود الثابتة لـ450 ألفاً من الموظفين العموميين – تضع ضغوطاً إضافيةً على الموازنة بما يؤدّي إلى زيادة العجز الذي لا يمكن أن يستمر. وستكون الآثار طويلة الأجل لاستمرار السياسات الاقتصادية القائمة على التوسُّع في الإنفاق العام سيئة.
لا يزال الاقتصاد المصري في حالة تراجع منذ تنحّي حسني مبارك في فبراير 2011. ويعود ذلك جزئياً إلى حالة عدم الاستقرار المتأصّلة في الدول التي تمرّ في مرحلة انتقالية، وتفاقم الأمر في مصر بسبب تزامن مرحلة التحول مع الانكماش في الاقتصاد العالمي. والآثار المترتّبة على التباطؤ الحالي تبدو أكثر وضوحاً في مجالات الاستهلاك المحلي، والاستثمار الخاص المباشر، والسياحة. ولعكس هذه الاتجاهات الأخيرة والمضي قدماً في الاقتصاد ككل، تقترح الدراسة أن على الحكومة الانتقالية أن تعطي الأولوية للأمور التالية في المدى القصير:
• استعادة الأمن.
• الاعتراف بتحفظ وتردد القطاع العام والرد عليه - على المستويين المحلي والأجنبي - مع وجود خريطة طريق واضحة من شأنها ضمان الاستثمار خلال هذه الفترة من التقلبات.
• الكف عن تصوير القطاع الخاص وكأنه شيطان سيئ وإقامة شراكات جديدة مع أصحاب المشاريع المستقلين.
• اعتماد مقاربة أكثر تشاركيّة وشفافية في عملية صنع القرار.
• ضمان توافر الأموال اللازمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة عن طريق تقديم ضمانات للبنوك التجارية لفترة محدودة من الزمن.
• توجيه المنح والقروض الأجنبية نحو مشاريع البنية الأساسية والإسكان للفقراء وللمرافق العامة الأخرى.
أما على المدى المتوسط بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فإن الحكومة في حاجة إلى:
• تعزيز دور المؤسسات.
• معالجة المعدّلات المنخفضة للاستثمار ورصد الموارد المالية اللازمة ما أمكن.
• تصحيح الخلل بين المنتجين والمستهلكين.
• توسيع عملية التساقط المحدودة الآن الناجمة عن النمو، والتي تؤدّي محدوديتها إلى توسيع الفجوة في الدخل بين الأغنياء والفقراء.
وتؤكِّد الدراسة أن معالجة هذه المشاكل وتنفيذ التدابير قصيرة ومتوسطة المدى المذكورة أعلاه سيساعدان على وضع الاقتصاد على المسار الصحيح، وتجنُّب التوسُّع في الإنفاق العام إلى مستويات لا يمكن تحمُّلها أكثر من ذلك. حتى الآن، فشلت الحكومة الانتقالية في اتخاذ خطوات جريئة في الاتجاه الصحيح، ولم تعط الاهتمام الكافي للجوانب الاقتصادية لعملية الانتقال، فقد كان أداء مصر ضعيفاً تاريخياً في مؤشرات الحُكم الرشيد، مثل سيادة القانون، ونوعية الأنظمة التجارية، والفساد المرتبط بالإنفاق الاجتماعي غير الفعال. ونتيجة لذلك هناك سوء في توزيع الموارد. وبالتالي، يمكن أن تواجه الحكومة أسوأ سيناريو من التدهور الاقتصادي المستمر والعودة إلى السلطوية مرة أخرى.