يقول المثل: "لولا الغيرة ما كبرت الصغيرة".. وهذا المثل يمكن تطبيقه في بعض الجوانب البشرية والمادية. وقد تكون نتائج الغيرة في بعض المواقف مرغوبة ومحمودة، ومقبولة. وقد تكون غيرة مذمومة، وممقوتة وغير مقبولة، أو حتى غير منطقية. وقد تمتد الغيرة إلى مؤسسات التعليم العالي. وقد تكون هناك غيرة ممقوتة بين الجامعات، خاصة التي تهدف إلى التنافس غير المنطقي أو التباهي بهدف السبق الإعلامي لنيل أكبر أو أعلى أو أضخم مشروع، أو مبنى، أو معمل أو مستشفى، أو عيادة، أو غير ذلك من التضخيم غير الواقعي. وقد تكون الغيرة في جوانب أخرى مرغوبة، ومطلوبة.

وفيما يتعلق بجوانب الغيرة غير المرغوبة، أو غير المطلوبة بين مؤسسات التعليم العالي فقد تكون متعددة ومتنوعة، وقد تمس الجانب البشري، أو الجانب المادي. ونتيجة لأن أغلب الجامعات الحكومية متقاربة في أعمارها الزمنية، وفي عدد كلياتها، والتخصصات التي تقدمها، فقد تكون نسخة من بعضها إلى درجة كبيرة عدا جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ما عدا ذلك تكاد هذه الجامعات تكون متشابهة في هياكلها، وبرامجها، وتخصصاتها، وهذا قد يجعل المساحة للغيرة كبيرة، وقد نرى ممارسة فعلية للغيرة من هذا النوع بين الجامعات، فنجد أن الجامعات تنافس بعضها فيما يتعلق بحجم مبنى المكتبة العامة بالجامعة، وعدد الكتب بها. والعبرة هنا ليست بالحجم، أو بعدد الكتب، بل هي بعدد مرتاديها، ونوعية الخدمة التي تقدمها، ومدى الاستفادة من خدماتها لكل من الطالب والمجتمع الجامعي والمجتمع بشكل عام، فنوعية الخدمة وفعاليتها هي مجال خصب للغيرة المقبولة. كما أن هناك غيرة بين الجامعات في عدد المعامل بمختلف أنواعها، والعيادات وغيرها من الإمكانات المادية؛ فكثير من الجامعات تطمح أن تكون هي في الطليعة في مجال عدد المعامل، وعدد العيادات الطبية، وغيرها من الإمكانات المختلفة. وهنا أرى أن العدد ليس هو المجال الصحيح للتنافس، أو الغيرة المقبولة، لكن المهم هو نوعية الخدمات التي تقدمها هذه المرافق، ونوعية وكفاءة ما تحتويه؛ فالغيرة أو التنافس ليس مجاله الكم أو الحجم، بل مجاله الكيف والنوعية، وهذا ما يجب أن نركز عليه وندعمه ونشجعه. وهناك مجال آخر للغيرة غير المقبولة، أو التنافس الوهمي، ويتمثل في عدد الطلاب أو عدد أعضاء هيئة التدريس؛ فنجد أن بعض الجامعات تتباهى بأنها أكبر جامعة من حيث أعداد الطلاب أو أعضاء هيئة التدريس أو الموظفين، وهنا أرى أن الزيادة في أعداد الطلاب قد تكون على حساب الجودة في الخدمات المقدمة لهم، وعلى حساب الجودة في المخرجات بشكل عام. وقد تكون الزيادة نقصا في بعض الأوقات، وقد تؤثر على درجة ونوعية الخدمات المقدمة. وهناك نوع آخر من الغيرة، أو التنافس غير المرغوب بين هذه المؤسسات يحس به المتتبع لما تنشره بعض الجامعات من أخبار صحفية، فنجد أن بعض الجامعات تتعمد نشر كل شاردة وواردة في معظم وسائل الإعلام المتاحة، وتحب الظهور الإعلامي بشكل يفوق ما تنشره الجامعات الأخرى، وهنا أرى أن نشر الخبر ليس بالمهم، ولكن المهم ما وراء الخبر من إنجازات وما حقيقتها.

هناك جامعات أخرى لا تفضل الظهور الإعلامي، أو ما تسميه بالبهرجة الإعلامية، وتفضل أن تعمل بعيدا عن الأضواء، وهنا أرى أن هذه الجامعات قد تظلم نفسها في هذا المجال، ولا يعرف المجتمع عن إنجازاتها أو مشروعاتها أي معلومات، وقد يكون ذلك من مبدأ "عليكم بقضاء حوائجكم بالسر والكتمان". وأعتقد أن الموازنة والاعتدال مطلوبان في هذا المجال وغيره من المجالات في مؤسسات التعليم العالي. والأمثلة التي نراها في السباق المحموم بين الجامعات، أو الغيرة غير المرغوبة عديدة ولا يتسع المجال لذكرها.

وفيما يتعلق بالمجالات التي قد تكون الغيرة أو التنافس بين الجامعات فيها أمرا مرغوبا ومطلوبا فهي كثيرة، فالتنافس بين جامعاتنا مطلوب في عدد الأبحاث النوعية المنجزة عن البيئة المحلية، وتخدم المجتمع بشكل مباشر، ومنشورة في أوعية نشر عالمية ومرموقة، فما ينفق على البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي، وما تقدمه بعض الجهات الداعمة لا يواكب عدد الأبحاث العلمية النوعية المنشورة في أوعية نشر عالمية معروفة، وهنا لا بد من تفعيل مفهوم الغيرة، وآلياتها لتحقيق التنافس الشريف في مجال النشر العلمي الجاد والأصيل الذي يعد إضافة علمية على مستوى عالمي. كما أن التنافس والغيرة مطلوبان فيما يخص أعداد الطلاب المقبولين في برامج الدراسات العليا النوعية، ومستوى ما يقدمونه من رسائل علمية وأبحاث موجهة لخدمة الوطن والمواطن، وما ينشر من هذه الرسائل من أبحاث على مستويات عالمية. وهناك مجال آخر وهو الاختراعات والابتكارات التي قد يكون فيها التنافس الشريف مطلوبا، والغيرة مقبولة بين مؤسسات التعليم العالي في مثل الحصول على براءات الاختراع والابتكار من الجهات الدولية المانحة، ويتم دعم مثل هذا التوجه بشكل مناسب ومستمر. كما أن نوعية البرامج، والدورات التي تقدمها الجامعات كخدمة للمجتمع من الجوانب التي تدخل ضمن الغيرة المرغوبة والتنافس المحمود؛ حيث نريد أن تكون هذه البرامج نوعية وتعالج قضايا المجتمع وتسهم بتقديم حلول واقعية ومنطقية لمشكلاته، وأن تصل برامج خدمة المجتمع إلى أفراد المجتمع في أماكن تواجدهم.

أما الجانب الآخر المهم الذي بحاجة إلى تنافس فعلي وحقيقي فهو تميز جامعاتنا في بعض الجوانب أو البرامج، وأن تخرج عن كونها نسخة طبق الأصل من بعضها في كثير من التخصصات، وهنا أتمنى أن جامعة في الشمال تكون المرجعية على مستوى عالمي في تدريس وأبحاث ودراسات المناطق الصحراوية، وأخرى يشار إليها في الأبحاث الطبية، وجامعة في المناطق الساحلية يكون لها حضور عالمي في مجال الدراسات البحرية، وجامعة تركز على الأبحاث الزراعية، وتكون هي المرجعية في هذا المجال، وأخرى في الدراسات الإنسانية والتربوية المتخصصة، وجامعة أخرى تخصص جزءا كبيرا من جهدها ودعمها للأبحاث المتخصصة في المجالات الهندسية، وأخرى في المجالات الحاسوبية، وغير ذلك من التميز في المجالات المختلفة التي نحن بحاجة لها في وقتنا الحاضر أكثر من أي وقت سابق، والتركيز في التخصصات والبرامج في مؤسسات التعليم العالي قد يرفع مستوياتها، ويسهل تحقيق معايير الاعتماد والجودة.