الإنسانية نبض لنا في قلوب الآخرين، سيل من المعاني العظيمة نجسدها بأعمال لأشخاص يحتاجون لنا دون انتظار مقابل مادي, فالمقابل الإنساني أسمى وأعمق حينما يتشكل بابتسامة طفل, أو فرحة عجوز, أو تحقيق بعض من أحلام شاب.
إن الدافع أو الاستعداد للعمل الإنساني يكمن في دواخلنا وفي أعماقنا، ولا يمكن أن يكون مصدره خارجياً، فهو مصدر رغبتنا في مساعدة الآخرين, وتعريض أنفسنا للمخاطر دون خوف أو تردد من أجل فكرة، أو حاجة، أوهدف, أو مبدأ نؤمن به.
الإنسانية تتجلى بمجموعة من الأعمال يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد من خلال تقديم قدراتهم وجهودهم ومواهبهم وأوقاتهم، بهدف تنمية مجتمعاتهم وتقديم المساعدة للآخرين دون مقابل، هذا ما يعرف بالعمل التطوعي الذي ـ وللأسف الشديد ـ يشهد نقصا كبيرا بصورته المؤسساتية في مجتمعنا السعودي, وإن كان هناك بعض من الجهود الفردية الملموسة, لكن مما لا شك فيه أن للجموع أثرا أكبر من الفردية مهما وصفت بالعبقرية مرة, والفريدة مرة أخرى.
إن الرغبة في تناول هذا الموضوع تكمن في الحاجة إلى فهم وتسليط بقعة من الضوء نحو العمل التطوعي وما نلحظه من تراجع عام واضمحلال في قيم التطوع ومفهومه في وقتنا الحالي, إنها بقعة من الضوء كان لا بد من إسقاطها وإن أزعجت بصرنا أحيانا وآلمتنا كذلك، ولكنها ستبقى حقيقة لا بد لنا من رؤيتها وفهمها وإدراكها ليتسنى لنا أن نعرف كيف نصنعها ونتعامل معها.
إذن كيف نستطيع أن نوجد مكانا للعمل التطوعي المؤسساتي في مجتمعنا تحت سقف إيماننا بأهميته من جهة وفاعليته بالقيام بدوره المحتوم لإيجاد التكامل والتكافل الاجتماعي من جهة أخرى؟
إن العمل التطوعي ركيزة أساسية في بناء المجتمع ونشر التماسك الاجتماعي بين المواطنين لأي مجتمع، والعمل التطوعي ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجموعات البشرية منذ الأزل.
وتظهر أهميته ومدى الحاجة إليه من خلال الفوائد والنتائج التي يحققها والآثار الإيجابية التي تنعكس على الوطن ككل, حيث يعزز العمل التطوعي المؤسساتي الانتماء للوطن ويؤدي إلى تنامي شعور العطاء في سبيل تطوره وتقدمه.
لذا كان من الضرورة إدخال ثقافة التطوع في المناهج التدريسية التي تركز على مفاهيم العمل الاجتماعي التطوعي وأهميته ودوره التنموي ويقترن ذلك ببعض البرامج التطبيقية؛ وتعزيز مبدأ المشاركة مع المواطنين والجهات المعنية الرسمية على مختلف المستويات, وإشراك الأطفال في الأعمال التطوعية لزرع روح العمل التطوعي لديهم, وتنمية مهارات وقدرات المتطوعين من خلال إقامة المزيد من البرامج التدريبية لتشجيعهم على الاستمرار في العمل التطوعي وتحديد أولوياته، وتحويله إلى عمل مؤسساتي ممنهج عبر وضع خطة استراتيجية واضحة لجذب الشباب وتنشيط روح العمل التطوعي لديهم، والتنسيق مع الجمعيات الأهلية المعنية بهذا الشأن, ويجب ألا ننسى دور وسائل الإعلام المختلفة في تعريف أفراد المجتمع بماهية العمل التطوعي ومدى حاجة المجتمع إليه وتبصيرهم بأهميته ودوره في عملية التنمية، وكذلك إبراز دور العاملين في هذا المجال بطريقة تكسبهم الاحترام الذاتي واحترام الآخرين.
وبما أننا مقبلون بعد أيام على شهر الخير والرحمات, حُق لنا الحديث عن أعمال الخير والترغيب فيها, فهي وسيلة لراحة النفس والشعور بالاعتزاز والثقة بالنفس عند من يتطوع, لأنه فعالية تقوي عند الأفراد الرغبة بالحياة والثقة بالمستقبل قال سبحانه وتعالى: (فمن تطوع خيراً فهو خير لَه).
وما نلحظه في رمضان من الجمعيات الخيرية لهو عمل عظيم ورائع, ولكني أتمنى أن تبقى أعمال الخير مستمرة طوال العام وليس في رمضان فقط, وأن تطال الأعمال التطوعية مناحيَ أخرى بالحياة ليس فقط بجمع الصدقات والتبرعات للفقراء, بل أيضاً بإشراكهم في ندوات تعليمية تعنى بتطوير الذات وتسجيلهم في معاهد تعليم الحاسب أو اللغات أو دروس تقوية مجانية للمتأخرين دراسياً, وغيرها الكثير من الأعمال التطوعية التي تعد في يومنا هذا أساساً لبناء المجتمعات.
وأخيرا أقول إن الأعمال التطوعية لا يتم الدفع لها ليس لأنه لا قيمة لها بل لأنها لا تقدر بثمن.