ثقافة الـ single
وفي ظل غموض وجدل يعيشهما المجتمع نتيجة أسباب ارتفاع نسبة العنوسة أو العزوبية على طاولات النقاش والدراسة، ظهرت مشكلة أخرى وهي مشكلة قلة الإنجاب التي بدأ الكثيرون يتحدثون عنها، وفي المقابل نشهد اليوم تغير لمنحى جديد مختلف اجتماعيًا وهو أن بعض الأفراد من المجتمع يؤيدون حرية الاختيار ويعززون من ثقافة الـ single من الجنسين.
وتشير ثقافة «single إلى نمط حياة العزوبية، والذي يتضمن العيش بشكل مستقل بعيدا عن الزواج، مع التركيز على النمو الشخصي، الاستقلالية، وتكوين شبكات دعم اجتماعي قوية. وهي تتجاوز مجرد حالة العزوبية إلى أسلوب حياة له هويته الخاصة وفوائده وتحدياته. وتظهر هذه الثقافة في مجتمعات تتقبل العزوبية كخيار شائع ومُرضٍ.
جاء ذلك بسبب بروز ظاهرة جديدة وهي الفخر بالعزوبية والعنوسة التي انتشرت مؤخرًا في مقاطع مواقع التواصل بعبارات إيجابية تؤيد البقاء عازبًا أو عانسة ويفضلونها على الارتباط بالزواج واستقرار العائلة فيما استنكرت فئة مجتمعية كبيرة هذا التوجه.
هل نحن أمام تحول اجتماعي؟
يبدو أن «الفخر بالعزوبية والعنوسة» ظاهرة قد تضعنا أمام تحوّل اجتماعي جديد، وبكل تأكيد فإن البوادر منها تستحق الدراسة والتفكير، فهي تعكس رغبة جيل جديد في التعبير عن ذاته، ورفض الضغوط التقليدية، والعمل على إعادة تعريف مفهوم الحرية الشخصية.
في الوقت ذاته، يظل المجتمع مطالبًا بفهم هذا التحول، والتعامل معه بحكمة واحترام، مع مراعاة تحديات المرأة والرجل في التعبير عن رغباتهم بحرية في بيئة تفرض الكثير من القيود الاجتماعية والأخلاقية.
«الوطن» فتحت هذا الملف الجديد والحيوي لتنقل أوجه قد تكون غائبة عن المشهد بالاستعانة بعدد من الاختصاصين في علم النفس والاجتماع ومنهم مهتمين بالشأن الأسري، وسط تساؤلات عديدة عن جوانب هذه الظاهره وآثارها، فهل هو خاضع لحرية الاختيار للارتباط من عدمه، أم أنها تجربة اختبار للوحدة والصبر والتكيف مع واقع فرضته الظروف أو العادات وساعدته التوجهات المجتمعية الجديدة.
يوم عالمي
هذا الأمر تعدى الحدود الجغرافية فهو غير محدد بمنطقة بذاتها، حيث يُحتفل في بعض المجتمعات بيوم «العزاب» الذي يُوافق 11 نوفمبر، أي بعد أيام قليلة قادمة سنشهد هذا الاحتفاء الذي يُعد فرصة للفت الانتباه إلى حالة العزاب، خاصة في الصين، حيث بدأ كاحتفال من الطلاب الذين يفتخرون بعزوبتهم، ويعتبرونه مظهرًا من مظاهر الحرية والاستقلالية. ويعتقد البعض أن هذا اليوم يُعبر عن الاعتراف بخصوصية الفرد وحقه في اختيار حياته.
جدلية الحرية والمجتمع
وبحسب التعليقات التي تذيلت هذه المنشورات استمر رفض نسبة كبيرة من المجتمع للظاهرة، إذ يعتبر الزواج من الأساسيات في بناء الأسرة، على اعتبار أن تأييد هذه الظاهرة خروجًا عن القيم والأخلاق، فيما يرى المتزوجون أن العزوبية حالة مؤقتة، وأنها ربما تكون سببًا في التوهم بالراحة، لكنها في النهاية غير مستقرة وتفتقد للأمان الاجتماعي والنفسي الذي يوفره الزواج، بينما تواجه النساء، خاصة في مجتمعات محافظة، تحديات أكبر في التعبير عن رغباتهن، إذ يظل المجتمع يحيطهن بخطوط حمراء تحظر عليهن التصريح برغبتهن في الزواج بحرية وسط جدلية الحريّة والقيود الاجتماعية خاصة في بيئة تضع الاعتبارات الأخلاقية والحياء في المقدمة.
فيما يرى المؤيدين لها أن المجتمع يجب أن يتقبل واقع أن الإنسان له خيارات شخصية في حياته، وأن الفخر بالعزوبية يجب أن يُؤخذ كحق طبيعي، وليس كمظاهر اعتراض على المجتمع أو رفض للزواج.
آراء المختصين
يستشهد المهتم بالشأن الأسري والمرشد الاجتماعي ناصر الراشد، باقتباس ذكره مايكل أرجايل في كتابه «سيكولوجية السعادة» بـ،«إن الإنسان يشعر بأقصى حالات الرضا في الحياة في العلاقة الزوجية وبعدها تأتي بقية العلاقات الاجتماعية الأخرى مثل العلاقة بالوالدين، وبمراجعة منتظمة لكثير من الدراسات التي تتحدث عن السعادة تشير إلى أن المتزوجين أكثر سعادة من غير المتزوجين وأن السعادة الزوجية تلقى بظلالها على مختلف جوانب حياة الإنسان».
وأضاف: وقد ورد في الأثر عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزواج سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
من هذا الباب انطلق الراشد ليوضح «هناك توجهات ثقافية لدى الكثير ممن هم في عمر الزواج للعزوف عن الزواج، وتختلف المبررات من شخص لآخر، فالبعض يرى أن تكاليف الزواج عالية الأمر الذي يقود للعزوف عن الزواج، وبالنسبة للعنصر الأنثوي هناك أيضًا تفضيلات ثقافية جديدة تتعلق برغبة المرأة في إكمال الدراسة حيث تؤكد بعض الدراسات أن رغبة المرأة في الحصول على وظيفة تفوق رغبتها في تشكيل أسرة بمعدل 10 مرات، وهذا التوجه يجعلها تعيش صراع مع تكوينها الغريزي في الحاجة للأمومة ورغبتها في النمو الشخصي.
وأضاف: تشير بعض دراسات الرأي العام أن بعض النساء اللاتي عزفن عن الزواج في بداية حياتهن، ندمن على اتخاذ ذلك القرار.
الكمال والتنوع
وأضاف الراشد أن من أسباب عزوف الناس عن الزواج، وجعل التنوع هدفهم الأمثل، السعي وراء الكمال البشري، فالبشر بطبيعتهم يميلون إلى شريك مثالي ولا يتسامحون مع العيوب والنقائص. لذلك، بعد خوض أي علاقة، بمجرد إدراك عيوب الطرف الآخر وعيوبه، يميلون إلى تركها وتجربة شخص آخر. وتابع: «هذه طريقة خاطئة تمامًا للتعامل مع الكمال البشري والطريقة الصحيحة هي أن يساعد الرجل، بعد تكوين أسرة، زوجته على التطور وأن يغرس هذا الاهتمام في نفسه. بهذه الطريقة، سيصل تدريجيًا إلى الكمال خلال حياته الزوجية، ولن يمل من عيوب زوجته».
محاكاة درامية
وأكمل «من ناحية أخرى، نجد في عصرنا أعمالا درامية فنية كثيرة تُروّج لنظرة خاطئة لمفهوم الحب وترفع مستوى التوقع لدى الشباب، وبالتالي يرتفع أيضًا مستوى القلق لديهم من إمكانية تحقيق زواج مستقر وناجح أو الوصول إلى مستوى الرضا عن العلاقة الزوجية. ففي العديد من الأعمال الفنية، يُصوّر الحب خارج إطار الأسرة، ما يؤدي إلى أن يصبح الحب - وهو مفهوم لبناء الأسرة وتقويتها - عاملًا في تفككها، وبالتالي يُضفي عليها مظهرًا جميلًا».
ولفت الحقيقة هي أن الأعمال الفنية قد أوجدت لدينا «خطأً إدراكيًا»، وهو «وهم اعتبار المحدود غير محدود». تتخيل الأجيال الجديدة أنها إذا خاضت علاقات عاطفية متنوعة بدلًا من الزواج، ستتمتع بمزيد من ملذات الدنيا وهذا هو الخطأ الإدراكي نفسه، لأن بعض المفاهيم في هذا العالم محدودة ولا يمكن استخدامها إلى ما لا نهاية، فضلًا عن أنها تعرض نماذج مشوهة من العلاقات الزوجية المضطربة وتسهم في تكون صورة ذهنية قلقه عن الارتباط والزواج».
تعميم السلبية
واستدرك «هناك تجارب زواج ناجحة تفوق 87% ولكن طبيعة العقل البشري الذي يميل إلى تعميم السلبيات ينظر لتلك الزيجات المضطربة، خصوصًا أن الأزواج السعداء قليلا ما يعرضون تجاربهم في العالم الافتراضي، لذلك تكون الفرصة أكبر لأصحاب الزيجات المتصدعة، والتكرار يحدث مسارًا ثقافي سلبي يؤدي إلى تكوين شعور بالقلق في الدخول في علاقة زوجية».
بين الحرية والإنكار
من جانبه، قال الاستشاري الاجتماعي علي العباد إن ما نراه اليوم من تصاعد الخطاب الذي يُمجِّد «العزوبية» أو «العنوسة» ليس مجرد موجة عابرة، بل هو انعكاس لتحولات اجتماعية ونفسية واقتصادية يعيشها الجيل الحالي. وقال: «من المهم أن نفهم أن هذه الظاهرة ليست بالضرورة موقفًا واحدًا؛ بل تتعدد دوافعها بين من يختار هذا النمط بوعي ورضا، وبين من يتبناه كآلية دفاع نفسي أمام ضغوط الواقع».
القناع أو القناعة
عما إذا كانت قناعًا نفسيًا أم قناعة حقيقية أجاب العباد «في علم النفس، حين يعجز الإنسان عن تحقيق رغبة داخلية عميقة، قد يلجأ إلى ما يسمى بإعادة التقييم المعرفي، أي تحويل العجز إلى فضيلة ظاهرة، من هنا يمكن فهم أن بعض من يروّجون للعزوبية إنما يفعلون ذلك كآلية دفاع نفسي تخفّف عنهم ألم الوحدة أو الإحباط من تجارب سابقة أو تأخر في الزواج، في المقابل، هناك من يختار العزوبية بوعي ورضا، انطلاقًا من رغبة في الاستقلال أو انشغال بتحقيق الذات، وهؤلاء لا يمكن وضعهم في الإطار ذاته».
وأضاف أن الفرق الجوهري بين الحالتين هو: هل هذا الاختيار نابع من امتلاء داخلي أم من فراغ يُراد التغطية عليه؟
صمت الرغبة وضغط المجتمع
وأوضح أن الرجل قد يواجه الرفض أو الأعباء المادية التي تعوق زواجه، لكن المرأة كثيرًا ما تعيش حساسية التعبير عن رغبتها في الزواج بسبب نظرة المجتمع التي قد تُحمّلها اللوم. وهذا التناقض يولّد صراعًا بين الفطرة والمجتمع، فيتحول الصمت إلى قناعة مصطنعة، وتتحول الرغبة الطبيعية إلى شعار «أنا لا أحتاج أحدًا»، قائلا «هنا لا نتحدث عن رفض الزواج بقدر ما نتحدث عن محاولة للتكيّف مع واقع صعب في إطار من الإنكار النفسي».
التكيّف مع الواقع أم الهروب منه؟
وفي هذا الخصوص قال العباد «في ظل غلاء المعيشة وارتفاع نسب الطلاق وتراجع الثقة في استقرار العلاقات، بات بعض الشباب يفضّلون الهدوء الفردي على مغامرة الحياة الزوجية. وقد يكون هذا التوجه في بدايته تكيّفًا مشروعًا مع واقع صعب، لكنه حين يتحول إلى تبنٍّ فلسفي لرفض الزواج فإنه يصبح نوعًا من الهروب المقنّع من المسؤولية والالتزام. فالاستقرار لا يعني غياب المشاكل، بل القدرة على العيش داخلها بتوازن».
الفردانية ومفهوم الذات
وأكمل «يعيش الجيل الجديد في عالم يعظّم الفردانية والحرية الشخصية، حتى بات الإنسان يرى ذاته مركز الوجود، صار الشاب أو الشابة يقول: «سأصرف على نفسي، وأهتم بنفسي، ولا أريد أن أُقيَّد بعلاقة»، متناسيًا أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يكتمل وحده معلقًا الحرية الحقيقية ليست في أن نفعل ما نشاء، بل في أن نختار ما ينسجم مع فطرتنا التي فطرنا الله عليها.
وأضاف: «الحرية ليست أن نُعلن التمرد على سنن الله في الحياة، بل أن نفهمها ونتعامل معها بوعي، كثيرون اليوم يخلطون بين الحرية الحقيقية والإنكار النفسي، فيقدّمون رفض الزواج على أنه تحرر، بينما هو في جوهره رد فعل دفاعي يخفي خوفًا أو جرحًا أو خيبة أمل ويبقى الزواج آية من آيات الله ومطلبًا تكوينيًا طبيعيًا يحقق للإنسان سكينته وتوازنه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}
هذه الآية تلخّص الفلسفة العميقة للعلاقة الزوجية؛ فهي ليست عبئًا اجتماعيًا، بل تجسيد لفطرة الخلق وسُنّة الاكتمال الإنساني. إنّ من ينكر الزواج بحجة الحرية قد يكون في الحقيقة أسيرًا لخوفه لا حرًّا باختياره، بينما الحرية الحقّة هي أن يختار الإنسان ما يوافق طبيعته التي أرادها الله له.
الخلل في النفوس لا في الزواج
وعن الدور الإعلامي والأفكار التي يروج لها البعض عبر المنصات، قال الاستشاري العباد «الإعلام صار يُظهر الزواج إمّا صراعًا لا ينتهي، أو رومانسية حالمة بعيدة عن الواقع. وفي المقابل، انحصر الطرح الشرعي عند كثيرين في التركيز على «ما يجب وما لا يجب»، في الوقت الذي تفتقد فيه الأجيال إلى الإجابة عن السؤال الجوهري: لماذا الزواج أصلًا؟
والحل هو: إحياء الفكر الزواجي الأصيل الذي يوازن بين الأحكام والفلسفة، ويعيد للزواج معناه كـ ميثاق غليظ يقوم على السكن والمودة والرحمة.
لو أدرك الناس الغاية الكبرى من الزواج، لما أعرضوا عنه، بل لتسابقوا إليه. غير أنهم أنزلوه عن مقامه السامي، وظلموه مرتين: مرّة بالاختزال، حين قزّموه إلى مجرد حفلة عرس ومظاهر فارغة.
ومرّة بالتشويه، حين صوّروه منبعًا للمشكلات. ثم زادوا ظلمًا ثالثًا حين أسقطوا نقائصهم وفشلهم عليه. فالخلل في النفوس لا في الزواج.
الخطاب حول الزواج في مواقع التواصل
• تشويه الزواج عبر النكت والمبالغات.
• الترويج للمثالية أو الكراهية.
• الخلط بين التجارب الفردية والحقيقة الكونية.
• تغييب الغايات الكبرى وتضخم التفاصيل الصغيرة.
إحصائيات سعودية حول الطلاق والزواج لعام 2024
- 350 ألف مطلقة
- 32 % نسبة النساء اللاتي لم يسبق لهن الزواج
- 62 % نسبة المتزوجات
- 6 % نسبة المطلقات
- 2 % نسبة الأرامل
- 66 % نسبة الشباب والشابات الذين لم يسبق لهم الزواج في الفئة حتى سن 35 سنة.
- 75 % نسبة الذكور الذين لم يسبق لهم الزواج.