لم يكن فلاسفة العقل في القرن الماضي يفكرون في مستقبل العقل ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات مثلما يفعلون الآن. ويرجع ذلك إلى سببين. فأما أحدهما فهو أنهم قد شغلوا أنفسهم بتحليل جغرافيا العقل والحالات العقلية. وأما الآخر فهو أن التقدم في دراسات المخ وتصويره، وفي الذكاء الاصطناعي، لم يكن قد بلغ حداً يسمح لهم بوضع بعض النبوءات حول ما سيصير إليه حال العقل، مثل تحميل العقل.

ثمة ثلاثة تطبيقات تكنولوجية محتملة من شأنها أن توسع قدراتنا العقلية وتعززها: وهي تمديد العقل، ودمج العقل، وتحميل العقل.

العقل بين التمديد والدمج


ترتبط هذه التطبيقات بعلاقة وثيقة هي التحرر من المخ. وهذا المقال يعالج التطبيق الثالث، غير أن الفهم الجيد له يتطلب أن نلقي نظرة خاطفة على التطبيقين الأولين. انظر أولاً إلى تمديد العقل. هل تعرف أرقام هواتف أكثر مما خزنته في ذاكرتك؟ الجواب عند آندي كلارك وديفيد تشالمرز في مقال «العقل الممتد» 1998: نعم. فالعقل يمتد خارج الجمجمة إلى العالم حيث نعتمد على الأجهزة غير البيولوجية مثل الموبايل، وفي استخدام المسيرات في الحروب، حيث تمتد عقول مشغلي المسيرات إلى ما هو أبعد من أجسامهم. استخدمت المسيرات للمرة الأولى في اعتداء أمريكا على العراق في عام 2002، وأخيراً في اعتداء إسرائيل على إيران. إذا صح ذلك، فإن اعتمادنا المتزايد على الأجهزة التكنولوجية في السنوات المقبلة قد يعني أن الكثرة الغالبة منا تفرغ بعض اعتقاداتها وحالاتها العقلية الأخرى إلى أجهزة التخزين الخارجية. لكن، هل يمكن التخلص من جميع حالاتك العقلية؟ وإن شئت فقل: هل يمكن تحميل عقلك بالكامل على كمبيوتر؟

تأمل ثانياً في دمج العقل. خضع الباحث البريطاني كيفين وارويك في عام 1988 لعملية تركيب شريحة إلكترونية داخل يده. وبعد الجراحة، أصدرت هذه الشريحة إشارة مكنته من تشغيل الأبواب والأضواء والكمبيوتر. وعاش نولاند أربو مع الشلل لمدة ثماني سنوات، ولكنه خضع لعملية غرس شريحة في مخه صممتها شركة «نيورالينك»، واستطاع أن يلعب الشطرنج بعقله فقط.

الإنسانية المتعالية والتفرد التكنولوجي

إن تقنية وصلة المخ والكمبيوتر مثل «نيورالينك» ترمز إلى عصر جديد من الدمج بين المخ البشري والآلات. ومع ذلك، يتوق أنصار الإنسانية المتعالية إلى ما هو أكثر من ذلك. إنهم يطمحون إلى التخلص من الموت، واستبدال المخ الاصطناعي بالمخ البيولوجي. لا يزال تحميل العقول محصوراً في الخيال العلمي، لكن بعض الباحثين يرونه قريباً. يتوقع راي كورزويل أننا سنكون قادرين على تحميل المخ إلى كمبيوتر أو جسم أندرويد في أواخر عام 2030. ويزعم أننا نقترب بسرعة من التفرد التكنولوجي الذي سيحدث بحلول عام 2045، وهي مرحلة يتجاوز فيها الذكاء الاصطناعي الذكاء البشري. يقول راي كرزويل في كتابي «التفرد قريب» 2005، طرحت نظريتي القائلة إن الاتجاهات التكنولوجية المتقاربة والمتسارعة تفضي إلى تحول جذري للبشرية. هناك مجالات عدة رئيسة من التغير تتسارع بوتيرة متزامنة: انخفاض تكلفة القدرة الحسابية، وفهم أفضل للبيولوجيا البشرية، وإمكانية الهندسة على نطاقات أصغر بكثير. ومع نمو قدرات الذكاء الاصطناعي وتزايد سهولة الوصول إلى المعلومات، فإننا ندمج هذه القدرات دمجاً دقيقاً مع ذكائنا البيولوجي الطبيعي. وفي نهاية المطاف، سيمكن النانو تكنولوجي هذه الاتجاهات من أن تتوج بتوسيع أمخاخنا مباشرة من خلال طبقات من الخلايا العصبية الافتراضية في السحابة. وبهذه الطريقة، سنندمج مع الذكاء الاصطناعي ونعزز أنفسنا بقوة حسابية تفوق بملايين المرات ما منحتنا إياه بيولوجيتنا. سيؤدي هذا إلى توسيع ذكائنا ووعينا بشكل عميق يصعب فهمه. هذا هو ما أعنيه بالتفرد«(2024:1Kurzweil, R. The Singularity Is Nearer,).

صاغ جوليان هكسلي مصطلح»الإنسانية المتعالية«في عام 1957، وأسس ديفيد بيرس ونيك بوستروم الجمعية الإنسانية المتعالية العالمية في العام 1998. وتضمن إعلانها جملة مبادئ منها: (1) سوف تتغير البشرية تغيراً جذرياً بفضل التكنولوجيا في المستقبل. (2) الانفتاح العام على التكنولوجيا الجديدة يتيح لنا فرصة أفضل للاستفادة منها مقارنة بمحاولة حظرها. (3) الدفاع عن الحق الأخلاقي لمن يرغبون في استخدام التكنولوجيا لتوسيع قدراتهم العقلية والجسمية.

معنى التحميل

تقدم الوظيفية الحسابية الأساس الميتافيزيقي لتحميل العقل عندما تقرر أن العقل برمجية المخ. ولكن هذه الوظيفية تأتي في صورتين: إحداهما قوية والأخرى ضعيفة. تقول القوية إن العقل هو برمجية المخ، تماماً كما أن البرامج التي تعمل على أجهزة الكمبيوتر هي برمجياتها. ونظراً لأن هذه الصورة القوية تفتقر إلى دليل، يفترض أنصار الخلود الرقمي شيئاً يقارب الصورة الضعيفة التي تقول إن العقل هو برمجية المخ بالمعنى الواسع، وهو ما لا يسوغ تحميل العقل بالطريقة التي نحمل بها البرامج العادية. بعبارة دقيقة، تقول الوظيفية الحسابية الضعيفة إن العقل هو التنظيم الحسابي للمخ. قد لا يتكون التنظيم الحسابي من برمجية رقمية عادية، بل من بنية ووظائف الشبكات العصبية التي تشكل المخ (Piccinini, G. The Myth of Mind,Uploading, 2021: 126).

إذا لم يكن العقل برمجية بالمعنى الحرفي، فماذا يعني التحميل؟ يفهم أنصار الخلود الرقمي تحميل العقل بمعنيين: أحدهما هو محاكاة المخ؛ أي بناء محاكاة حسابية مفصلة لمخ فردي داخل كمبيوتر رقمي اصطناعي. والآخر هو استبدال المخ؛ أي استبدال أطراف اصطناعية بأجزاء من المخ تدريجياً حتى تحل محل المخ بأكمله. وعن محاكاة المخ بالكامل يقول كورزويل:»إن تحميل مخ بشري يعني مسح كل تفاصيله البارزة ثم إعادة إنشاء تلك التفاصيل في أساس حسابي قوي على نحو مناسب. وسوف تلتقط هذه العملية الشخصية الكاملة لشخص وذاكرته ومهاراته وتاريخه«(Kurzweil, R. The Singularity Is Near, 2005: 138).

أنواع التحميل

يميز تشالمرز (Chalmers, D. Uploading: A philosophical: analysis,) 2014:102-103 بين ثلاثة أنواع من التحميل:

(1) التحميل التدميري: يتمثل في تجميد المخ وتقسيمه، وتحليل بنيته طبقة تلو الأخرى. في كل طبقة، يسجل توزيع الخلايا العصبية والمكونات الأخرى ذات الصلة، إضافة إلى طبيعة ترابطاتها. وبعد ذلك تحمل هذه المعلومات في نموذج كمبيوتر يسعى إلى محاكاة المخ الأصلي.

(2) التحميل التدريجي: يعتمد على النقل النانوي؛ أي إدخال روبوت نانوي واحد أو أكثر إلى المخ، ليرتبط بخلايا عصبية مفردة ويتعلم محاكاة سلوكها وكيفية ارتباطها بالخلايا العصبية الأخرى. وبمجرد محاكاة سلوك الخلية العصبية جيداً، تحل الروبوتات النانوية محل الخلية العصبية الأصلية، وتحمل المعلومات ذات الصلة إلى كمبيوتر عبر أجهزة إرسال لاسلكية. تتكرر هذه العملية لكل خلية عصبية.

(3) التحميل غير التدميري: طريقة غير جراحية تعتمد على تصوير المخ، وهي مشابهة للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، ولكنها تتمتع بالقدرة على تسجيل الديناميكيات العصبية والتشابكية. وعلى الرغم من أن هذه التقنية غير متوافرة الآن، فإن تطويرها من الأمور المتوقعة. وعلى عكس التحميل الأول، يحافظ التحميل غير التدميري على المخ الأصلي.

يتخيل بوستروم مزايا لتحميل العقل: (1) لن تخضع عمليات التحميل للشيخوخة البيولوجية. (2) يمكن عمل نسخة احتياطية لعمليات التحميل، بحيث يمكن إعادة تشغيلك إذا حدث شيء غير مخطط له، ما يسمح لك بالعيش إلى أجل غير مسمى. (3) من منظور اقتصادي، ستكون الحياة المحملة أرخص بكثير. (4) سيفكر الفرد المحمل داخل كمبيوتر أسرع ألف مرة مقارنة بالمخ البيولوجي. (5) يمكن أن تتحرك عمليات التحميل بسرعة الضوء، مما سيكون مفيداً في عصر مستقبلي من المستوطنات الفضائية. (6) سيكون من الأسهل تنفيذ التعزيز المعرفي الجذري في عملية تحميل مقارنة بالمخ. (Bostrom, N. The Transhumanist FAQ, 2003: 18–19)

هل أحجز لك موعداً؟

تخيل رجلاً في منتصف العمر يدعى إبراهيم، يشعر بآلام في الصدر. قرر رؤية طبيب القلب الذي يفحصه. بعد وقت قصير، تلقى إبراهيم مكالمة هاتفية تفيد بأنه في حاجة إلى زيارة متابعة. عند وصوله، يقول الطبيب: كشفت الاختبارات أنك تعاني من خلل في القلب لا سبيل إلى علاجه، وما يتبقى لك من الحياة أشهر قليلة. وعلى الرغم من عدم وجود علاج، لدي خيار واحد ممكن بالنسبة إليك. طور فريق بحثي في»معهد بشر الغد«إجراء مهماً. سيمسحون مخك وجسمك ويسجلون تكوينك العقلي والجسمي. وعندما يكتمل المسح، سيصممون جسم أندرويد بناءً على جسمك الحالي ثم يحملون نمط عقلك إلى كمبيوتر يعمل على تشغيل جسم الروبوت. سيتخلصون من القشرة البيولوجية القديمة، وستكون قادراً على الاستمرار كما كنت من قبل مع الجسم الجديد؛ نظراً إلى أن أجسام الروبوت هذه تدوم لفترة طويلة ويمكن استبدالها بسهولة إذا تلفت، فإن هذا الإجراء يسمح لك بالعيش إلى أجل غير مسمى. هل أحجز لك موعداً؟ يشعر إبراهيم بالفزع، ويعود إلى المنزل ليتحدث مع زوجته وعائلته، ويوافق في النهاية. عندما يفتح عينيه بعد الإفاقة من العملية، يدرك أن لديه جسماً جديداً تماماً، مشابهاً لجسمه القديم، ولكنه متجدد وأقوى. وتراه يشعر بنفسه ويقول بارتياح: لقد سارت الأمور على ما يرام.

يمكن أن نوقف التجربة الفكرية ونضيف إليها لمسةً واحدة. بعد لحظات من إفاقة إبراهيم، يأتي شخص ويطرق الباب. وعندما يدخل، يندهش إبراهيم من أنه إبراهيم. اتضح أن وحدة التخلص البيولوجي في المنشأة معطلة حالياً، ومن ثم لم يتمكن الفريق البحثي من التخلص من الجسم البيولوجي كما يفعلون عادةً. ولكن، نظراً لأنهم تمكنوا من معرفة أن القلب البيولوجي كان على بعد أيام من الاستسلام، فقد قرروا السماح لإبراهيم بالعيش في الجسم البيولوجي إلى أن يموت بطريقة طبيعية، مع السماح له أيضاً بالعيش في جسم الروبوت. يحدق أحدهما في نظيره، ولا يعرف أي إبراهيم منهما ما يفكر فيه الآخر.

يتصور بعض علماء الأعصاب، مثل مايكل جرازيانو، إمكانية تحميل العقل. ويشك آخرون في إمكانية حدوثه على الإطلاق، لأن تخزين المخ وإنعاشه»أمل زائف" بتعبير مايكل هندريكس. عندما تعرض عليك شركة تجميد مخك حتى تتمكن يوماً ما من تحميل عقلك على كمبيوتر، فلا تنخدع. هذه نصيحتي، أما أسبابها فسوف أكشفها لك في مقال آخر.

*أكاديمي ومفكر من مصر

* ينشر بالتزامن مع دورية افق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.