الحرب الدائرة في السودان، والصراع الدامي الذي يعصف بالشعب، يكشفان مأساة أعمق من مجرد مواجهة عسكرية راح ضحيتها الشعب في الفاشر وغيرها من المدن السودانية. إنها أزمة وعي وقيادة تمس مصالح السودان، حيث تتنازع القيادات على السلطة بينما يتكبد المواطن البسيط كلفة الدم والخراب والجوع والنزوح على مرأى من العالم عبر شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، وبينما يرفع كل طرف شعارات الوطنية والدين والسماحة وحب المصالحة، تزداد الهوة بين خطاب القيادات العسكرية ووعي الناس. ما يجعلنا نطرح هذا التساؤل: هل يمكن أن تكون الجماهير، التي طالما كانت ضحية هذه الحرب، أكثر حكمة من الذين يدعون تمثيلها ويتحدثون باسمها؟ وليعذرني القارئ الكريم، فإني في هذا المقال أحاول أن أكون مع هذا الشعب العظيم الذي يدفع ثمن هذه الحرب بعيدًا عن الاصطفاف مع طرف دون آخر. ولعلنا نستحضر ما كتبه جيمس سوروويكي في كتابه «حكمة الجماهير»، حيث يقدم رؤية مختلفة، إذ يرى أن «الناس العاديين حين يمنحون حرية التفكير والمشاركة يتخذون قرارات أكثر صوابًا من النخب، شريطة وجود تنوع واستقلال وآليات مشاركة فعالة». لكن الواقع في السودان الممزق يعاني غياب هذه العناصر؛ فالقرار محتكر في يد من يمتلكون صوت البندقية، والمواطن محاصر بخطابات إعلامية منحازة لهذه الأطراف، والمركزية تغيب الأطراف، فلا صوت حقيقي للشعب في مراكز القرار. والأخطر من ذلك هو غياب المشاركة وظهور ما سماه «لوفنثال» و«غوترمان» في كتابهما «أنبياء الخداع»، وهم المحرضون الذين يستغلون المآسي لتغذية الكراهية، وهذا وجدناه بشكل جلي في بث الصور المروعة للقتل والتهجير والعبث بحياة البشر، في محاولة لتثبيت سلطتهم بالترهيب والتخويف. فهؤلاء لا يخلقون الكراهية من العدم، بل يلتقطون وجدانًا جريحًا ويوجهونه نحو عدو مصطنع من أبناء جلدتهم، فيقدمون الترهيب والعنف على أنه واجب وطني، والحرب عملًا مشروعًا ومقدسًا. وهكذا، يستغل بعض القادة في السودان الدين والشعارات الوطنية لتبرير صراع دنيوي على السلطة والثروة، بينما بدأ الشعب يدرك أن هذا الاستخدام الانفعالي للدين لا علاقة له بمقاصده الأخلاقية. المحرض والمغرض، كما يقول لوفنثال، يعيشان على ضياع الجماهير؛ فهو النبي الزائف والرسول الكاذب الذي يدّعي أنه من الشعب ولأجله، لكنه يتحدث كمن يعرف مصيره أكثر منه. كاريزمته تقوم على تمثيل المظلومية الجماعية في شخصه، فيدّعي أنه ضحية تآمر أو كاره للفساد، فيتحول الخطاب إلى وسيلة تخدير تُعطل التفكير وتحوّل الجماهير إلى أداة تصفيق لمن يشاركها جراحها لفظًا ويعمق الألم فعلًا. هذا الخطاب يقوم على التناقض المدروس، فمن يصورونه على أنه العدو يُقدَّم قويًا في ظلمه وضعيفًا في القدرة عليه في آنٍ واحد، فلا هدف سوى إبقاء الناس في حالة تعبئة دائمة تمنعهم من التفكير النقدي. عندها تصبح الوطنية طاعة، والإيمان سلاحًا، والوطن شعارًا يُستخدم لتبرير القتل. ورغم هذا الواقع المظلم، ما زال في السودان ما يمنح الأمل. فوسط الدمار لا بد أن تنشأ من رحم الجماهير مبادرات محلية يقودها مواطنون عاديون ينظمون الإغاثة والتعاون الأهلي دون دعم سياسي، مدفوعين برغبة الحياة لا النصر. هؤلاء يجسدون حكمة الجماهير التي تحدث عنها «سوروويكي»، جماعات صغيرة تتصرف بعقلانية حين يفشل أمراء الحرب والقيادات الحربية، وتفهم أن الوطن لا يُبنى بضجيج البندقية بل بالتعاطف والعمل المشترك. والحكمة التي مصدرها التجربة والتاريخ، تؤكد أن القيادات العسكرية التي تقود الحروب حين تغيب عنها الأخلاق تقود الشعوب إلى الهاوية، لكن الشعوب حين تمنح حرية التفكير وتدرك أن المبادرة يجب أن تأتي منها، تُظهر اعتدالًا وحكمة. والجماهير السودانية، في اعتقادي، اليوم بعد أن رأت ثمن الحرب، أدركت أن من يتحدث باسمها لا يمثلها بالضرورة، وأن خلاصها لن يأتي من قائد أو شعار، بل من وعي جماعي يرفض الحرب باسم الدين أو الوطنية.
السودان لا يحتاج إلى مزيد من المحرضين، بل إلى من يؤمن أن الخلاص لا يكون ضد أحد، بل مع الجميع. فالوطن لن ينجو بصوت واحد، بل بتعدد الأصوات التي تتلاقى على إنقاذه. وفي وجه أنبياء الخداع وضجيج البنادق، تبقى حكمة الجماهير هي الأمل الأخير في أن يفكر الناس بأنفسهم، ويختاروا الحياة على الكراهية، والإنسان على الشعار، والوطن على النزاعات العرقية والحروب العبثية.