في عصرٍ يتسابق فيه الناس على الضوء، لم يعد الجدل حول من يستحق المنبر بقدر ما أصبح حول من يجيد لفت الأنظار. وفي خضم هذه الفوضى الإعلامية، ظهرت فئة جديدة من «النجوم» لا تنتمي لعالم الفن ولا الرياضة، بل خرجت من قلب الجامعات والمراكز البحثية: الخبراء والمختصون الذين اختاروا طريق الشهرة بدلاً من طريق المعرفة.

قبل سنوات وإلى فترة قريبة، الناس والمجتمع ينتقدون ظاهرة «صناعة الحمقى مشاهير» أولئك الذين اشتهروا بجهلهم، أو بسلوكهم الغريب، أو بتفاهة محتواهم. لكن اليوم، نواجه نسخة أكثر خطرًا من الظاهرة ذاتها: فبدل أن يُصنع «الجاهل» نجمًا، صار بعض «الخبراء» أنفسهم يصنعون شهرتهم عمدًا عبر الصدمة والإثارة ومخالفة التيار، فصار بعض من يحملون الألقاب العلمية يطلقون تصريحات من نوع: «على الرجل أن يتزوج أربع نساء من أجل الصحة النفسية» أو «يجب على المجتمع أن يتخلى عن القيم التقليدية لأنها تُعيق التطور» أو «الأبوة والأمومة مفاهيم تجاوزها الزمن!» أو لا تبكي على والدك بقدر بكائك على درجة خسرتها في امتحان. تصريحات لا تُبنى على منهج علمي، ولا على دراسة موضوعية، بل على إدراكٍ دقيقٍ لشيء واحد: أن الجدل يصنع الانتشار، وأن من يُخالف السائد يتصدر العناوين.

في زمن الإعلام الرقمي، تداخلت المفاهيم. صار من الصعب التمييز بين الخبير والمُؤثر، بين من يُعلّم ومن يُثير، بين من يتحدث بدافع المعرفة ومن يتحدث بدافع «الترند». فبعضهم بدأ مسيرته الأكاديمية بنزاهة، ثم اكتشف أن طريق النجاح العلمي طويل وبطيء، بينما طريق الشهرة أسرع وأكثر لمعانًا. فاختار أن يُقدم نفسه بصفته «الخبير المختلف»، الذي يتجرأ على كسر التقاليد، لا لأنه يؤمن فعلاً بما يقول، بل لأنه يعرف أن مخالفة المجتمع أصبحت وصفة جاهزة للشهرة. هكذا تحوّل «العلم» إلى سلعة إعلامية، تُعرض في برامج الصباح والمساء على شكل تصريحات مثيرة أكثر من كونها معرفة مبنية على أدلة. ولم يعد السؤال: هل كلامه صحيح؟ بل هل كلامه لافت؟


لا يمكن أن نُلقي باللوم على الأفراد وحدهم، فالإعلام بدوره يتحمّل نصيبًا كبيرًا من المسؤولية. بعض القنوات والمنصات الرقمية تُفضل استضافة الشخصيات المثيرة للجدل لأنها ترفع نسب المشاهدة، بغض النظر عن مصداقيتها أو التبعات الفكرية لما تطرحه. كل دقيقة «ترند» تُترجم إلى أرباح، وكل جدل يُعد نجاحًا في عالم الأرقام، حتى لو كان ذلك على حساب وعي الجمهور.

البرامج الحوارية اليوم لا تبحث عن المتخصص الهادئ الذي يقدم تفسيرات منطقية، بل عن «الخبير الصادم» الذي يثير الغضب والجدل. وهكذا، أصبحت الإثارة أهم من الحقيقة، وأصبح «الترند» معيارًا للنجاح بدلًا من «المضمون».

إذا كنا قد أخطأنا في الماضي عندما صنعنا من الحمقى مشاهير، فإن خطأنا اليوم أكبر، لأننا نصنع من بعض «الخبراء» مراجع فكرية، يُستشهد بآرائهم وكأنها مسلمات، رغم أن كثيرًا منها لا يستند إلى علم حقيقي أو تجربة واقعية.

بكل تواضع - مقالي - هو دعوة لإعادة التوازن فعلينا أن نُطالب المنصات الإعلامية بتحمل مسؤوليتها الأخلاقية، وألا تُسهم في تضليل الجمهور باسم حرية الرأي. وأن نُعيد - نحن - كمجتمع مهارة التمييز بين من يتحدث بعلم، ومن يتحدث بحثًا عن شهرة.

فتكفون وطالبكم وأرجوكم «لا تجعلوا من الخبراء مشاهير».