في لقاء حديث، صرح الدكتور طارق الحبيب بأنه يشعر أن نقصاً في درجة الامتحان «تأثيره أشد من موت الأم أو الأب» من وجهة نظره الخاصة. هذه المقارنة القوية استفزت الاستجابة الاجتماعية، لكن إذا نظرنا بعمق نرى أن ما قاله يمكن أن يُفهم من خلال عدسة نفسية أكثر تعقيداً، إذ إن «التأثير النفسي ليس مقبولاً أن يُقاس فقط بمدى خطورة الحدث في ظاهر الأمور، بل بمدى المعنى الذي يمنحه الشخص لذلك الحدث».

وهذا لا يعني أن المقارنة بين فقدان أحد الوالدين ودرجة امتحان هي مقارنة «مقبولة» عند الجميع؛ فمن الطبيعي أن يُثار الغضب أو الاستغراب، واعترافه بهذه الحقيقة هو الوجه الآخر من التأثير النفسي وقوته التي تختلف من شخص إلى آخر. كل إنسان يحمل في داخله خريطة خفية للألم، لا تشبه خرائط الآخرين. فالأحداث التي تهز أحدهم قد تمر على آخر مرور العابر، ليس لأن أحدهم بلا قلب، بل لأن المشاعر لا تتوزع بعدل بيننا. هناك من يتألم حين يفقد قريباً، وهناك من لا تهزه المآتم كلها، لكنه ينهار إذا خسر صفقة مالية، أو فاته اختبار علمي، أو خذلته درجة في نتيجة. هذا التفاوت لا يعني ضعفاً ولا قسوة، بل يعكس شيئاً أعمق: أن الإنسان يتألم بقدر ارتباطه النفسي بالحدث، لا بقدر حجمه.

فقد يربط شخص رزقه وكرامته وصورته عن نفسه بالمال، فإذا خسره شعر أنه خسر ذاته، فينهار جسده ويمرض قلبه، وربما تنتهي حياته مبكراً من دون أن يدرك أن المرض لم يكن في الجسد، بل في الفقد الداخلي. وفي المقابل، هناك من يتألم لفقدان والديه، لكنه يستمد عزاءه من إيمانه وقدرته على التسليم، فيتجاوز الألم سريعاً.


حتى في تفاصيل الحياة اليومية، نجد من ينهار إذا خسر فريقه المفضل وكأن العالم انتهى، وقد يُصاب بجلطة قلبية، بينما لو مات أحد والديه لا يشعر بالألم نفسه. وآخر يخسر ماله أو بيته ولا تتغير ملامحه ولا يسعى للإصلاح. ولو فتشنا في القلوب لوجدنا أن ما يبدو بسيطاً قد يكون عظيماً عند البعض، فالألم لا يُقاس بالظاهر، بل بما يلمس في الداخل تلك «النقطة الحساسة» التي ترتبط بتاريخ قديم من التجارب والذكريات والتعليقات.

وعلى الجانب الآخر، هناك من يعيشون المفارقة العكسية؛ أناس يبيعون علاقات سنين طويلة، وصداقة امتدت لعشرين عاماً وأكثر، أو زواجاً دام سنوات طويلة، مقابل شيء لا يُقارن بخسارته. اللامبالاة التي صدمت الناس في تصريح الدكتور، موجودة بيننا بأوجه أخرى، لكنها لم تجد من يجرؤ على قولها بصوت عالٍ. كثيرون يعيشون هذا التناقض بصمت، يخفونه تحت أقنعة المثالية واللباقة الاجتماعية.

ربما نحن أكثر قسوة مما نظن، فقط لأن البعض يُحسن التمثيل. ولو نظرنا بصدق في داخلنا، لاكتشفنا أن اللامبالاة التي انتقدناها موجودة فينا نحن أيضاً، لكن البعض يسميها عقلانية أو ترفعاً أو نضجاً.

هذا المقال ليس دفاعاً عن الدكتور طارق الحبيب، فالقسوة التي اتهموه بها ليست غريبة علينا، نحن نعيشها يومياً في صور مختلفة. تلك اللامبالاة التي رآها الناس في كلماته نجدها نحن فيمن ينكر العِشرة، وفيمن يخون ولا يتأثر، وفيمن يضحي بعائلته، لأنه وضع مشاعره في موضع آخر.

ما قاله الحبيب ليس تبريراً ولا خطأ، بل هو تذكير مؤلم بأننا لا نعيش حياة مثالية كما نتظاهر. إذ إن هناك آلاف الأشخاص يعيشون بيننا ولا يتأثرون، لا يحزنون، لا يبالون، فقط لأن أولوياتهم العاطفية في الحياة اختلفت، والفرق الوحيد بينه وبينهم أنه كان صريحاً، بينما غيره يعيش الشعور نفسه ويخفيه تحت مسمى التمثيل الاجتماعي. ربما كان تصريحه صادماً، لكنه يفتح باباً للوعي. علم النفس يؤكد: أن الاستجابة العاطفية للأحداث تختلف جذرياً باختلاف الارتباطات الداخلية التي يحملها الفرد تجاه الحدث. فالأشخاص الذين يربطون إنجازاتهم الدراسية بتقديرهم لذواتهم أكثر عرضة للألم عند الإخفاق، حتى وإن كانت خسارتهم سطحية في نظر الآخرين. وهذا يؤكد أن الأثر النفسي لا يتحدد بنوع الحدث، بل بمعناه داخل منظومة القيم الشخصية، وهو ما يفسر لماذا يعيش البعض صدمات شديدة بسبب أمور يراها غيرهم تافهة.

كل هذه التفاصيل تجعلنا ندرك أن تقييم الألم بمنطق «صواب أو خطأ» أمر ظالم. فالذي يتألم من خسارة مادية ليس سطحياً، والذي يتجاوز موت قريب ليس بلا إحساس، والذي يتنازل عن إنسان عظيم في حياته من دون ألم ليس بالضرورة قاسياً، بل ربما عالق في دوامة من الأولويات العاطفية. نحن نعيش في طبقات مختلفة من الوعي، ولكل شخص طريقته في التعامل. ولو أردنا الإنصاف، لقلنا إن ما قصده الدكتور طارق الحبيب ليس تقليلًا من شأن الفقد، بل تذكيراً بهذه الحقيقة: أن الوجع لا يتبع حجم المأساة، بل عمق التعلق. وربما كانت الدرجة التي خذلته رمزاً لصراع داخلي طويل، يوازي في ألمه وعمقه من يخسر إنساناً عظيماً في حياته، لأن قلبه ببساطة معلق في مكان آخر.

الألم لا يحتاج إلى تصديق الآخرين كي يكون حقيقياً، ولا يحتاج إلى دموعٍ كي يُثبت وجوده. إنه شعور شخصي جداً، يتجذر في الأعماق بطرق لا تُرى. ولهذا لا يصح أن نقيسه بمسطرة المجتمع، أو نحكم على قوته بمدى ظاهره، فكل قلب في هذا العالم يملك طريقاً مختلفاً إلى الانكسار.