إننا جميعًا نتوهّم أن الدوغمائيَّين، سقراط وأفلاطون، قد قضيا على الفلسفة السفسطائية وأنها انتهت منذ ذلك الزمن، غير أنها لم تمت، بل بدّلت جلدها وظهرت باسم الفلسفة البيرونية الشكيّة، ثم في الفلسفات النسبية اللاحقة. وهكذا، فإن ما كنا نظنه انقراضًا لم يكن إلا استمرارًا بأسماء مختلفة. لقد كان عالم الاجتماع علي الوردي واهمًا - في رأيي - حين زعم أن الفلسفة السفسطائية انقرضت قبل الميلاد، وتبعناه جميعًا دون تمحيص، لا لشيء إلا لأنه اسم كبير!! والحقيقة أن الفلسفة الشكيّة مستمرة وباقية، وهذا ما أثبته خالد الغنامي في كتابه «توسيع دائرة الشكوكيين»، حيث بيّن استمرار الشكّاك من عصر اليونان الأول إلى الفلسفة المعاصرة، وكيف أنهم لم ينقطعوا يومًا.
ويميز الغنامي بين نوعين من الشك:
1. الشك المنهجي: وهو شك محمود، وله الأثر الأكبر في إنتاج العلوم والفلسفات، وهو ذاته الشك الديكارتي.
2. الشك المذهبي: وهو الشك في كل شيء، حتى في المسلّمات الرياضية والبديهيات، وهذا - في رأيه - ممقوت ويُفضي إلى إبطال المعرفة.
ومن جهتي أرى أن المدرسة الشكيّة ليست فقط في أوروبا والهند والصين؛ بل حاضرة أيضًا في التراث العربي والإسلامي. فأبو العلاء المعرّي من أبرز الفلاسفة الشكوكيين في تاريخنا الإسلامي،
أوليس هو القائل:
أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما
أَقصى اِجتِهادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا
ولم يقتصر الشك على الفلاسفة وحدهم، بل أقرّه أيضًا كبار رجال الدين، فقد اتخذ أبو حامد الغزالي الشكّ منهجًا يوصلك إلى اليقين، وقال عبارته الشهيرة: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في متاهات العمى». وكذلك رأى المعتزلة - وهم فرسان العقل في التاريخ الإسلامي - أن الشك خطوة أولى ضرورية تسبق النظر العقلي.
للأسف فلسفات الشكوكيين لم تنل حقّها من الدراسة والنشر قديمًا أو حديثًا، باستثناء بعض الإضاءات المتفرقة. وهذا التعتيم نابع من كراهية عامة لهم؛ فهم مكروهون من الفلاسفة الدوغمائيين، ومن اللاهوتيين، ومن رجال الدين في مختلف الأديان، لأن الشكوكي لا يتردد لحظة في هدم أي بناء معرفي، ولا يقدّم بديلاً عنه. وهذا - في نظري - هو سبب النفور منهم جميعًا.
وترى المدرسة البيرونية الشكوكيّة أن تعليق الحكم هو الطريق إلى السعادة والطمأنينة؛ فبما أنه لا حقيقة مطلقة في منظورهم، فلا يصح إصدار حكم على الأشياء لا بالسلب ولا بالإيجاب، ومن ثمّ ننجو من القلق والاضطراب، ونظفر بالسكينة.