منذ لحظة تحرير سوريا في 8 ديسمبر 2024، تصاعدت حدة الاستقطاب الطائفي من مختلف المكونات، خصوصاً من الفئات المتضررة من سقوط نظام الطاغية الأسد.

هذا التصعيد لم يأت من فراغ، ورغم أن له ارتباطات جزئية بتركة السنوات المريرة الماضية، إلا أن الطرق التي يظهر بها وتوقيتها تعطي مؤشرات على أن التأجيج يسير وفق إستراتيجية مدروسة تتبناها دول وكيانات وتنظيمات تجتمع على هدف واحد هو منع ولادة سوريا الجديدة الموحدة، عبر إغراقها في فوضى الطائفية.

وتلخص قصص عدة حدثت مع مكونات سورية حجم الاستثمار في الطائفية لإبقاء الدولة الجديدة في حالة ضعف وتوتر يقودان إلى المشروع الكبير في إنهاء سوريا الموحدة.


أولى الفتن الطائفية برزت بعد تحرير سوريا بنحو ثلاثة أشهر حين هاجم مئات من فلول النظام البائد نقاط الأمن المنتشرة في الساحل السوري وقتلوا غدراً في ليلة 238 رجل أمن تحت جنح الظلام الذي ملأ قلوبهم بحسب لجنة التحقيق الوطنية في أحداث الساحل السوري.

أمام حجم الجريمة الهائل، سارعت قوات الأمن إلى الساحل كما حضرت قوات من العشائر وبعض أقارب الضحايا الغاضبين، وحدث ما يعرف اليوم بأحداث الساحل التي شهدت انتهاكات بعضها على أساس طائفي، ورغم أن التحدي كان كبيراً لكن الجهات السياسية والأمنية والمدنية نجحت في وأد الفتنة الطائفية التي حاول فلول النظام إشعالها.

أدرك نافخوا كير الطائفية أن طريقة العمل العسكري لا تجدي نفعاً في مواجهة قوات الأمن والجيش السوري الجديد، فعمدوا إلى طرق أخرى منها التجييش الطائفي عبر شخصيات دينية واعتبارية طوال الأشهر الماضية، ولعبوا خلالها على وتر المطالبة بالحماية الدولية تارة وبالتقسيم تارة أخرى ثم بالفيدرالية اتساقاً مع أطراف أخرى، لكن ذلك لم يؤتِ أكله كما يريدون أيضاً.

ثم وجد المستثمرون في المشاريع الطائفية ضالتهم الأسبوع الماضي في الأحداث التي أعقبت قتل رجل وزوجته من الطائفة السنية في بلدة زيدل بمحافظة حمص بطريقة وحشية. فبعد أن اقتحم مجهولون منزل العائلة قتلوا الرجل في دورة المياه وكتبوا بدمائه على الجدران عبارات طائفية، كما قتلوا زوجته وأحرقوا جثتها، وأدت الجريمة إلى ردود فعل غاضبة من بعض أقارب العائلة في المدينة تضمنت حرق سيارات وتخريب محال تجارية في أحياء يغلب على سكانها الطائفة العلوية، وهنا سارعت قوى الأمن إلى تنفيذ انتشار مكثف في الأحياء الجنوبية من حمص ومحيط البلدة، ونجحت في ضبط الموقف ومنع استغلال الجريمة.

بعدها تظاهر مواطنون من الطائفة العلوية في مدن عدة، لكن مطالب بعضهم لم تنحصر في المطالبة بمحاسبة من تهجموا على أحيائهم، بل امتدت إلى مهاجمة رموز سياسية وإطلاق عبارات طائفية والدعوة إلى الفيدرالية، والمطالبة بإطلاق سراح معتقلين متهمين بارتكاب جرائم ضد الشعب السوري طوال سنوات الثورة، ما يشير إلى أن المظاهرات تعدت الحدث نفسه إلى أبعاد أخرى.

قوات الأمن السورية انتشرت بكثافة عند تلك المظاهرات منعاً لأي تصعيد أو اشتباك بين المتظاهرين وآخرين، خصوصاً أن تلك المدن متنوعة طائفياً، ورغم إطلاق عبارات طائفية في بعض تلك المظاهرات لم تتدخل قوات الأمن ولم تعتقل أحداً في مشهد لم يسبق حدوثه، إذ أن المظاهرات أيام نظام الأسد كانت تواجه بالنار والاعتقالات والقتل.

فلول النظام البائد لجؤوا أيضاً إلى إبعاد المكون العلوي عن المشاركة السياسية في بناء سوريا الجديدة، فعمدوا إلى تهديد أبناء الطائفة العلوية في الساحل السوري الراغبين في ترشيح أنفسهم لانتخابات مجلس، ونفذوا تهديدهم باغتيال الدكتور حيدر شاهين المرشح لعضوية مجلس الشعب في منزله بمحافظة طرطوس.

الفتنة الطائفية الثانية كانت في محافظة السويداء جنوب سوريا، إذ أدى خلاف بين مكونات درزية وبدوية إلى مواجهات مسلحة تسببت في مقتل وجرح العشرات وحدوث تصفيات على أساس طائفي، وبعد الاتفاق على دخول القوات الحكومية لفض الاشتباك بين الطرفين، غدر أحد زعماء الدروز بقوى الأمن وطلب من كيان الاحتلال الإسرائيلي التدخل بقصف جوي ما أدى إلى مقتل أكثر من 400 رجل أمن وفقاً لمحافظ السويداء مصطفى البكور.

وتبين من تلك الأحداث حجم المخطط الذي يقوده الاحتلال الإسرائيلي لاستغلال التنوع الطائفي في تأجيج الفتنة الطائفية وتقسيم جنوب البلاد، ومدى التنسيق والتعاون مع ذلك الزعيم الدرزي الذي يسيطر عسكرياً على المحافظة ويسلب قرار الأهالي.

محاولات إشعال الفتنة الطائفية امتدت إلى المكون المسيحي، حين شهدت كنيسة مار إلياس بدمشق تفجيراً انتحارياً في يونيو الماضي، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات في مشهد صدم الجميع، لكن الزعماء السياسيين والدينيين والمدنيين نجحوا في احتواء تبعات الحادثة الإرهابية، كما أسهم نجاح قوات الأمن خلال فترة وجيزة في القبض على العصابة التي تنتمي لتنظيم داعش في وأد الفتنة.

توضح تلك الأمثلة أن المستثمرين في الطائفية بسوريا يتوزعون بين دول وكيانات وتنظيمات متطرفة، ما يشير إلى حجم الاستهداف، والحمل الكبير على عاتق القيادة الجديدة والشعب السوري كاملاً لوأد الفتنة الطائفية.

ومن الملاحظ أن حجم التحريض الطائفي يتزايد بالتوازي مع قرب استحقاقات جوهرية في مسيرة سوريا الجديدة، أولها التصويت على ميزانية وزارة الدفاع الأميركية التي تتضمن إلغاء «قانون قيصر» ما يرفع العقوبات الأميركية عن سوريا التي تمثل نقطة تحول جوهرية في مستقبل البلاد، لأنها تعني عملياً فتح أبواب سوريا أمام العالم، في حين يتمثل الاستحقاق الثاني في قرب انتهاء المهلة الممنوحة لقوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي تسيطر على مناطق الجزيرة السورية لتنفيذ اتفاق آذار الماضي المتضمن اندماج قواتها ضمن الجيش السوري.

إن مواجهة المخططات الطائفية تتطلب إستراتيجية واضحة تتضمن العمل على مسارات عدة تشريعية وأمنية وثقافية في وقت واحد، وتشمل سن الحكومة قوانين صارمة تجرّم الطائفية بكل أشكالها وصورها، وتمنع العنف أو التحريض على العنف على أسس دينية أو عرقية أو طائفية تجاه مكونات الشعب السوري.

كما يجب تبني خطاب وطني جامع يركز على المساواة في الحقوق والواجبات باعتباره طريقاً وحيداً للتعايش، مع إطلاق حملات توعوية تعلي شأن المواطنة وتبين أخطار التجييش الطائفي على الجميع اجتماعياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً.

يبدو واضحاً اليوم أن أطرافاً عدة يحاولون استخدام ورقة الطائفية وقوداً لحربهم بما يحقق مصالحهم وليس مصالح الشعب السوري من مختلف المكونات، فهل يستوعب الناس ذلك قبل فوات الأوان؟