يقول أهل الاقتصاد: «حيثما وُجدت البيانات وُجدت القيمة، وحيثما وُجدت الشفافية وُلد الاستثمار». وكأنها قاعدة باتت أكثر حضورًا في المشهد العقاري السعودي من أي وقت مضى، مع التحول الاستراتيجي نحو بناء بنية وطنية لترميز الأصول العقارية، تُعيد صياغة طريقة التعامل مع الملكية ونقلها وتقييمها، وتمنح القطاع قوة تنظيمية ورقابية وأمنية غير مسبوقة. ليتحول السوق العقارية اليوم متجاهلًا المعاملات الورقية أو الإجراءات التقليدية في ظل رؤية وطنية دعمتها زيارة ولي العهد الأخيرة للولايات المتحدة بمنظومة رقمية متكاملة ستحول عالمنا حتى العقاري منه من أصل جامد إلى أصل متداول بمرونة، تفتح آفاقًا استثمارية جديدة تتماشى مع طموحات المملكة. من هنا يُمثل الترميز العقاري نقطة انطلاق في رحلة التحول، إذ يتيح تحويل الملكيات الكاملة أو الجزئية إلى رموز رقمية يمكن تسجيلها وتداولها أو رهنها أو توثيقها ضمن إطار تقني آمن ومراقب. يمنح السوق مزيدًا من السيولة ويرفع من جودة التقييم العقاري عبر الاعتماد على بيانات لحظية دقيقة ومدققة، تحدّ من الفروقات السعرية المتباينة ويعزز من عدالة السوق واستقراره.

هذا التكامل من دورة المعاملة العقارية يجعلها سلسلة متصلة لا تتعرض للانقطاع أو التعارض بين الجهات، بدءًا من إدراج العقار والتحقق من بيانات الملكية، مرورًا بالتأكد من السجلات المالية، وصولًا إلى نقل الملكية والتسوية. وهو ما يجعل المًستثمر الفرد قادرًا على الدخول في مشاريع عقارية كبرى كانت حكرًا على رؤوس الأموال الضخمة، وهو ما يعمّق قاعدة المستثمرين ويزيد من تدفق السيولة داخل القطاع.

إذًا تعتمد البنية الوطنية الجديدة على نموذج تقني هجين يجمع بين الأنظمة العقارية التقليدية وطبقة تنسيق قائمة على البلوكتشين والعقود الذكية. ليكتمل التطور التقني ببناء منظومة تكامل مفتوحة عبر واجهات برمجة التطبيقات (API)، تتيح للبنوك وشركات التقنية العقارية والمطورين العقاريين الارتباط المباشر مع أنظمة السجل العقاري، وهو ما يُوائم السياق السعودي من الأنظمة اللامركزية الخالصة، لقدرته على تحقيق التوازن بين الابتكار والتوافق مع الأطر التنظيمية المحلية، مع ضمان قدرة الجهات الحكومية على الإشراف الموثوق على البيانات، التي لولاها ما ظهرت منتجات جديدة مثل الإقراض المرمّز، والضمانات الرقمية، والاستثمار الجزئي، إضافة إلى تمكين التحقق اللحظي من الملكيات وتحديث بياناتها، ما يرتقي بقدرة السوق على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية التي رأيناها عبر منصات ناشئة عالمية ومحلية -كما ظهر بوضوح خلال فعاليات سيتي سكيب في الرياض- كعامل محوري في نقل المعرفة وتسريع بناء اقتصاد عقاري رقمي.


ولأن التحول الرقمي لا يكتمل دون إطار حوكمة راسخ، وضعت الهيئة العامة للعقار معايير رقابية واضحة تشمل منهجيات حوكمة البيانات، وتحديث سجلات الملكيات الجزئية، وضمان جودة ودقة البيانات المتداولة داخل المنظومة، ليكون هناك توازن بين الرقابة والابتكار هو ما يمنح المستثمرين ثقة متزايدة في البيئة العقارية، محاط ببنية وطنية من معايير الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، كشرط أساسي لاستدامة الثقة في المنظومة التي تمتد إلى أبعاد اقتصادية واجتماعية واسعة تشمل زيادة السيولة العقارية، وتوسيع قاعدة المستثمرين، وتحفيز ريادة الأعمال التقنية، وخلق وظائف متخصصة جديدة، ودعم السيادة الرقمية للمملكة. ففي حي من الأحياء الثمانية عشر التي بدأ فيها تنفيذ الأعمال على سبيل المثال حي الملز في الرياض حيثُ أظهر الترميز العقاري تأثيرًا مباشرًا على جودة التقييم، وارتفعت دقة التقديرات بفضل التحديث الفوري للبيانات، وتقلصت دورة إتمام المعاملة العقارية من أيام طويلة إلى ساعات معدودة، مع زيادة الإقبال على الاستثمار الجزئي في العقارات السكنية والتجارية.

الترميز العقاري ليس مجرد مشروع تقني، بل هو خطوة استراتيجية تُعيد رسم مستقبل القطاع العقاري السعودي، وتحوّله إلى قطاع أكثر كفاءة، أكثر جذبًا، وأكثر قابلية للاندماج في الاقتصاد الوطني، بما يحقق مستهدفات رؤية 2030 في تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستدامة الاقتصادية.