لنتفق أولًا على أمر بسيط: لو اجتمع البشر على رأي واحد، لانقرضت الفلسفة، وأعلنت مواقع التواصل إفلاسها، وأغلق نصف العالم فمه لأنه لم يعد لديه ما يقوله.

الكون نفسه خُلق على مبدأ التعارض الجميل؛ فالكواكب لا تدور في المسار ذاته، والنجوم لا تتوهج بالقدر نفسه، وحتى الضوء لا يسلك طريقًا واحدًا. وكأن الوجود كلّه، من أوسع مجرّة إلى أدق ذرة بشرية، أعلن مبكرًا رفضه لفكرة الخط المستقيم. وكلما اقتربنا من الأرض، ندرك أن هذا الاختلاف يتضاعف حتى أقصى حدود التباين؛ فلا بصمتا إصبع تتشابهان، ولا عقلان يلتقطان العالم بالطريقة نفسها. وحتى اللغة - التي نظنها أداة للفهم -، كل جملة تُقال تحمل احتمال نقدها، لا لأنها ناقصة، بل لأنها تُقرأ من زوايا مختلفة. ومن هنا، لا يكون الخلاف طارئًا، بل جزءًا من تركيب الوعي نفسه.

غير أن هذا الاختلاف، الذي يُفترض أن يكون مساحة للتجريب والإثراء، يتحول في بعض البيئات إلى ساحة استنزاف. فبينما تستثمر أممٌ خلافها لتوسيع مداركها، نميل - في عالمنا العربي - إلى تحويله إلى امتحان نوايا، كأن الفكرة لا تُناقش لذاتها والرأي لا يُوزن بحجته، بل بمن يقف خلفه. فالخلل ليس في تعدد الأصوات، بل في الطريقة التي نحول بها كل صوت إلى راية.


الاختلاف إذن ليس مشكلة في ذاته؛ بل هو - في صورته الناضجة - دليل حياة وشرارة تقدم.

المعضلة تبدأ حين يتحول الاختلاف من وسيلة للاكتشاف إلى أداة للمحو، وحين يصبح الهدف من الحوار ليس بناء الجسور بل هدمها.

هنا يفترق المسار البشري العام عن المسار العربي الخاص، لا في إجراء الحوار، بل في طريقة هندسته إذ ننجح في تشكيله نظريًا، ثم نفشل في ممارسته حين يدخل حيز الواقع.

وعندما ينتقل الطرح من الفكرة إلى السلوك، تتكشف المفارقة بأوضح صورها؛

فالحوار لدينا، يتخذ شكلًا أكثر إثارة.

النقاشات تبدأ بابتسامات واسعة وضرب على الأكتاف، وكلمات منمقة تصلح لبرامج المساء: «نختلف لنرتقي»، «الرأي والرأي الآخر»، ثم لا يلبث المنطق أن يُركل إلى الزاوية، بينما تتطاير كلمات ثقيلة من الفم كالأحجار.

لا أحد يستمع، والجميع يتحدث، وكل طرف يتهيأ للانقضاض على الفكرة المخالفة كصياد يتربص بفريسته.

فالحوار هنا - في كثير من الأحيان - معركة بلا سيوف، لكنها تخلّف جثثًا منطقية متناثرة، وأفكارًا يتيمة تبحث عن أب يعترف بها. نحن لا نبحث عن الحقيقة، بل عن فرصة لتهشيم رأي الخصم، وكأننا نحمل منذ الولادة امتيازًا حصريًا على الصواب. وإذا صادف أن اتفق اثنان، فغالبًا لأن أحدهما لم يكن يستمع أصلًا، أو لأنه نسي ما كان يدافع عنه.

ببساطة، نحن نتحاور لا لنتقارب، بل لنثبت أننا على حق، حتى لو اضطررنا لإحراق الأبجدية ذاتها.

والحوار بهذا الشكل ليس جسرًا يُبنى، بل حفرة تُحفر. لا نستخدمه للعبور، بل لدفن ما لا يعجبنا. وما إن نواجه فكرة واضحة كالشمس، حتى نحاول إطفاءها بظلال الشك، لا لأن الفكرة خاطئة، بل لأنها لا تشبهنا.

نختلف حول الفكرة، ثم حول طريقة طرح الفكرة، ثم حول صاحب الفكرة، ثم حول نبرة الصوت التي قيلت بها الفكرة، حتى تختنق الفكرة وتموت، ثم نبحث عن جنازة جديدة نتعارك عندها.

المفارقة أن الجميع يطالب بالحوار، لكن بشرط أن ينتهي إلى نتيجة واحدة: أن يكونوا هم على حق. لذلك لا تنتهي نقاشاتنا غالبًا بالتفاهم، بل بكومة جمل طويلة وفكرة واحدة مفقودة. وحتى لو لمح أحدهم بارقة اتفاق، سرعان ما تُخنق بتفصيلة تافهة: نبرة الصوت، حركة اليد، توقيت الجملة، وكأن الفكرة لا تستحق الحياة إلا إذا كانت ترتدي زيًا رسميا وتنطق بلغة ملائكية.

وفي كل مرة نزهو بأننا بلغنا ذروة الوعي، يكفي أن نجلس حول طاولة نقاش لنعرف أن العقل - مهما اتسع - ما يزال أضيق من فكرة لا تشبه أفكارنا. عند هذه النقطة، لا يعود السؤال: لماذا لا نتفق؟ بل يصبح السؤال الأكثر رعبًا: هل كنّا نتحاور أصلًا؟

وهكذا، حين نطلق ساخرين العبارة الشهيرة: «اتفق العرب على ألا يتفقوا»، لا نكون نصف قدرًا محتومًا، بل نصف طريقة نُدير بها وجودنا: اختلاف لأجل الاختلاف، وجدال بلا هدف، وكأن الاتفاق ليس غاية محمودة، بل تهديد لهوية لا تكتمل إلا بالضجيج.