هذا التوجه يتناغم بصورة دقيقة مع روح «الرؤية». فواحدة من أعمق مزايا رؤية السعودية 2030 أنها ليست رؤية جامدة أو نصًا مقدسًا لا يتغير، بل إطار ديناميكي قابل للتطوير وإعادة التشكيل وفق الظروف ومتطلبات المرحلة، بما يخدم مصالح الوطن ويعزز استدامة التنمية. وهذه المرونة هي سر نجاحها؛ فالقدرة على التكيف أحد أهم عناصر الإدارة الحديثة، خصوصًا حين يأتي هذا التوجه مدعومًا بشكل مباشر من عراب الرؤية نفسه، سمو ولي العهد ــ حفظه الله ــ الذي أكد قائلًا:
«رؤية السعودية 2030 عبارة عن مسيرة وليست وجهة نهائية»، وذكر أيضا «ولن نتردد في إلغاء أو تعديل أي برامج أو مستهدفات تحقيقًا للمصلحة العامة».
وهذا التصريح يرسّخ بوضوح أن الرؤية ليست وثيقة مغلقة، بل منظومة حيّة مرنة ديناميكية تتطور مع المتغيرات لتحمي مستقبل الأجيال من تقلبات الاقتصاد العالمي.
كما أكد محمد الجدعان وزير المالية وعضو مجلس إدارة الصندوق قائلًا:
«ليس لدينا غرور، سنغير المسار، سنتأقلم، سنوسع بعض المشروعات، سنقلص بعضها، وسنسرع وتيرة البعض الآخر».
وجاء تصريح وزير السياحة أحمد الخطيب، وهو أيضًا عضو مجلس إدارة الصندوق، ليعزز الفكرة ذاتها:
«تتوقف، تقيّم ما سار على ما يرام وما سار بشكل خاطئ، ثم تحسّن».
اليوم إذن، نصل إلى لحظة الحقيقة بالنسبة للمديرين التنفيذيين في الشركات الحكومية وشبه الحكومية وشركات صندوق الاستثمارات العامة:
لقد حان وقت الاعتماد على النفس!
صندوق الاستثمارات العامة ــ (كثر الله خيره) مشكورًا ــ أسّس مئات الشركات في قطاعات متنوعة، وأسهم في خلق مئات الآلاف من الوظائف، وقدّم دعمًا سخيًا مكّن تلك الشركات من الوقوف على قدميها. ولكن كما يفعل الأب الذي يرعى أبناءه حتى يشتد عودهم ثم يقول لهم: اعتمدوا على أنفسكم وانطلقوا في الحياة، كذلك حان الوقت لأن تتولى هذه الشركات قيادة مسيرتها بشكل شبه مستقل، وألا تعتمد كليًا على دعم الصندوق إلى ما لا نهاية.
مرحلة التغذية بالملعقة (Spoon-Feeding) شبه انتهت.
والاعتماد الذاتي أصبح ضرورة وليس خيارًا.
ومع ذلك، يبقى الدعم الإستراتيجي للصندوق قائمًا؛ فمجرد حمل الشركة لاسم الصندوق يمنحها ثقة وتأثيرًا دوليًا هائلًا، إضافة إلى شبكة العلاقات الكبرى، وفرص التكامل والتآزر (Synergy) بين الشركات الشقيقة داخل المنظومة.
لكن المرحلة القادمة تتطلب معايير مختلفة. فقد ولّى زمن الاكتفاء بعرض تقديمي أنيق أو بعض الـKPI’s لإثبات الإنجاز وأخذ البونص !
اليوم، معيار الحكم الحقيقي هو:
النتائج... الأرباح... الأداء المالي... والقدرة على خلق القيمة.
وبالتالي، أصبح الشعار الأكثر دقة وواقعية:
**«أنجِز... أو ارحل!»
Deliver results or you’re out
برأينا، هناك مجموعة صفات لا يمكن لأي رئيس تنفيذي ناجح، خصوصًا في بيئة عالية التنافسية مثل شركات صندوق الاستثمارات العامة أن يعمل من دونها. وهذه الصفات ليست «كماليات»، بل شروط بقاء وقدرة على تحقيق نتائج ملموسة في عالم لا يعترف إلا بالأرقام.
1. قدرة فائقة على اتخاذ القرار تحت الضغط والغموض
الرئيس التنفيذي الحقيقي لا ينتظر اكتمال الصورة 100%!
لأن اتخاذ القرار في ظروف مثالية ليس قيادة، بل إدارة روتينية.
القائد الفعلي يقرر بسرعة، يتحمل كامل المسؤولية، ولا يبحث عن شماعة يعلق عليها أخطاءه. القائد الذي يهرب من اتخاذ القرار لن يصمد يومًا واحدًا في مؤسسات بحجم وشراسة شركات الصندوق.
2. هوس بالأرقام واللغة المالية
الرئيس التنفيذي لا يعتمد على التقارير التي تُقرأ له، بل يفهم بنفسه الـ P&L والـ Cash Flow والـ Unit Economics.
يسأل أسئلة دقيقة، صعبة، وحتى «مزعجة» في اجتماعات المالية.
من لا يمتلك هذا الهوس بالأرقام لن يعرف كيف يقود مؤسسة تقدر بمليارات الريالات، ولن يعرف أين تتسرب القيمة أو أين تُصنع.
3. القدرة على توظيف أشخاص أذكى منه... والاحتفاظ بهم
القائد العظيم يجذب النجوم، وليس «المطيعين».
لا يخاف من وجود كفاءات خارقة حوله، بل يبني فريقًا يُكمل نقاط ضعفه ويضاعف قوته.
والأهم: يطرد الضعفاء بسرعة، ولا يحوّل الشركة إلى «استراحة أصدقاء» أو مكان مجاملات ودوائر مغلقة.
4. رؤية واضحة قابلة للترجمة إلى أرقام
القائد الذي لا يعرف بالضبط إلى أين يسير لا يمكنه أن يقود الآخرين.
الرؤية الحقيقية يمكن تلخيصها في جمل قصيرة مفيدة يفهمها حتى موظف الاستقبال، ويمكن تحويلها إلى أهداف رقمية لمدة 3–5 سنوات.
الضبابية ليست إستراتيجية.
5. قدرة استثنائية على بيع الرؤية
ليس المقصود بيع كلام... بل تحويل المستحيل إلى مشروع يؤمن به المستثمرون والبنوك والصناديق والقطاع الخاص.
الرئيس التنفيذي الذي لا يستطيع بيع رؤيته لن يستطيع تأمين تمويل مشروع، ولا إغلاق شراكة، ولا استقطاب كفاءات متميزة.
6. جلد سميك
(Thick skin)
القيادي الذي ينهار من النقد أو يهرب من المواجهة أو يأخذ الأمور بشكل شخصي لن يقود مؤسسة كبرى. الفشل والرفض جزء يومي من عمل التنفيذيين الكبار، والناجح هو من يمتص هذه الضربات دون أن يفقد تركيزه، ما يحدث اليوم ليس «تغييرات»، بل اسميها تطورات إستراتيجية ستصنع مستوى جديدًا من الأداء والاحترافية.
في شركات بحجم وقوة وتأثير صندوق الاستثمارات العامة لا يمكن أن تكون بيئة للبقاء بالتقادم أو بالعلاقات.
البقاء سيكون للأفضل... للأعلى أداءً... للأكثر قدرة على تحقيق نتائج ملموسة. الصندوق العالمي لا يريد مديرًا يخشى اتخاذ القرار، مترددا، ولا يريد من يمرّر الوقت، ولا من يبني مسيرته على العلاقات. العلاقات قد ترفعك مؤقتًا، وقد توصلك إلى منصب، لكنها لن تصنع منك قائدًا، ولن تحقق نتائج تستحق الذكر.
عبر عقود من التجارب حول العالم، رأينا عشرات الأشخاص وصلوا إلى مناصب بسبب العلاقات، لكننا لم نرَ حالة واحدة حققت إنجازات حقيقية بالاعتماد على العلاقات فقط.
مثل هؤلاء قد يصلون إلى منصب كبير... لكن دون أثر. ينتهي دورهم حين يغادرون... وينساهم الجميع بعد 24 ساعة.
أما الحقيقيون، فهم الذين يصنعون نجاحات ملموسة (Tangible Success) يراها الناس وتنعكس على اقتصاد البلد وجودة الحياة ومستقبل القطاعات.
وفي النهاية، كل إنجاز يحدث في هذه الشركات هو قيمة مضافة للوطن... وهذا هو المعيار الذي يجب أن يحتكم إليه الجميع.