لم تكن قضية التأهيل (تأهيل المعاقين ومن في حكمهم) يومًا ملفًا صحيًا فحسب، بل كانت - ولا تزال - مؤشرًا حاسمًا على مدى نضج الأمم، وعمق رهانها على الإنسان بوصفه قيمة كبرى تتجاوز حدود القدرة الجسدية إلى فضاء الإمكان. فالمجتمعات التي تنظر إلى الإعاقة باعتبارها عائقًا مطلقًا، لم تدرك بعد أن الإعاقة الحقيقية لا تكمن في الجسد أو الحواس، بل في منظوماتٍ تفشل في اكتشاف قدرات هؤلاء، وتفشل (قبل ذلك) في إيمانها بأن الإنسان قادر على أن يصنع دوره مهما كانت قيوده.

وبالرغم من التحوّلات التي شهدها العالم في تعامل الحكومات مع ذوي الإعاقة، وعلى الرغم من تطوّر العلوم الصحية والتأهيلية، فإن الفجوة بين العالم العربي والدول الغربية في هذا المجال ما تزال واسعة؛ فجوةٌ لا تُختصر في وفرة الإمكانات، بل في مستوى الوعي، وجودة المنشآت، وعمق فلسفة التأهيل.

حين نتأمل واقع التأهيل في منظوماتنا الصحية، نجد أنفسنا أمام مشهد مزدوج؛ فمن جهة هناك جهود حكومية واضحة ورغبة حقيقية في الارتقاء بالخدمات، ومن جهة أخرى تظهر فجوات عميقة تجعل رحلة المعاق أكثر صعوبة مما يجب أن تكون. تبدأ الإشكالية من طبيعة النظرة المؤسسية للتأهيل؛ إذ ما زال يُعامل في كثير من المنشآت ذات العلاقة على أنه مرحلة لاحقة أو تكميلية للعلاج الطبي، لا جزءًا أصيلًا من خطة الصحة الشاملة. ولهذا يغيب التخطيط الطويل المدى، وتصبح خدمات التأهيل أقرب إلى ردود فعل آنية، لا مسارًا متصاعدًا يُبنى عليه مستقبل المريض.


في مستشفياتنا، يتضح محدودية الكوادر المتخصصة في مجالات دقيقة من التأهيل، مثل إعادة تأهيل إصابات العمود الفقري وأنا جزء من هذه الدائرة فالكوادر الموجودة تبذل جهدًا كبيرًا، لكنها تعمل غالبًا ضمن منظومة لا تزال في طور التأسيس، وتفتقر إلى التكامل بين التخصصات المتعددة التي تجعل التأهيل عملية متسلسلة لا متقطعة. كما أن عدد الأسرة المخصّصة للتأهيل في أغلب المنشآت لا يوازي حجم الحالات، فيضطر كثير من المرضى إلى الانتظار لفترات طويلة أو الاكتفاء بجلسات قصيرة لا تصنع الفرق المأمول.

وحتى لدى بعض المنشآت المتخصصة في التأهيل كدور أساسي في عملها، بالرغم من امتلاكها قدرًا أكبر من الإمكانات والتجهيزات، فإن خدماتها لا تزال محصورة في نطاق ضيق يعتمد على قدرة المريض المالية أو قدرة التأمين على تغطية التكاليف. وفي كثير من الأحيان، تصبح رحلة التأهيل في القطاع الخاص رحلة مُجتزأة؛ إذ يتلقى المريض عددًا محدودًا من الجلسات ينتهي بمجرد انتهاء التغطية، بينما يحتاج التأهيل الفعّال إلى برنامج طويل ممتد يستمر لأشهر أو سنوات. هذا الفصل بين «ما يغطيه التأمين» و«ما يحتاجه المريض» يخلق فجوة أخرى تجعل الكثيرين لا يحصلون على التأهيل المتكامل الذي يمكن أن يعيدهم للحياة الطبيعية بدرجة كبيرة.

ومع أن بعض المنشآت الخاصة بلغت مستوى متقدمًا في استخدام التقنيات المساندة والأجهزة الذكية والكوادر الاحترافية، إلا أن ذلك لا يمثل القاعدة العامة، بل استثناءات محصورة في نطاقات جغرافية محددة. وفي غياب منظومة وطنية موحّدة للتأهيل، يظل المريض يتنقل بين جهات متعددة، ويحمل ملفه معه من مكان إلى آخر، في رحلة تتطلب جهدًا نفسيًا وماليًا يفوق قدرته، بينما الأصل أن تكون المنظومة هي من تتولى قيادته وتسهيل رحلته.

وعند مقارنة هذا المشهد بما يحدث في الدول الغربية، تظهر الفجوة بوضوح. فالدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، وكندا، وكثير من دول أوروبا، تنظر إلى التأهيل بوصفه استثمارًا وطنيًا لا يمكن تأجيله. المستشفيات هناك ليست مجرد مبانٍ مجهزة، بل منظومات متكاملة يقودها عدد ضخم من المتخصصين في العلاج الوظيفي، والعلاج الطبيعي، والعلاج النفسي التأهيلي، في تلك الدول، تبدأ رحلة التأهيل منذ لحظة الإصابة، ولا تنتظر اكتمال العلاج الطبي، فيتم وضع خطة متوازية تعالج الجسد من جهة، وتُعيد تنشيط قدراته الوظيفية من جهة أخرى، ما يؤدي إلى نتائج سريعة وفعالة تقلل من فترة الإعاقة وتزيد من فرص العودة للحياة الطبيعية.

ولعل التفاؤل هنا يفصح عن نفسه فمع فجوة المقارنة، يبقى هناك نماذج لمنشآت وطنية مشرقة استطاعت أن تقدم خدمات تأهيل نوعية، وتثبت أن القدرة لا تتعلق فقط بالبنية التحتية، بل برؤية واضحة وإيمان عميق، فأخرجت نموذج قد يتفوق أحيانًا على بعض التجارب الغربية والتي سبقت غيرها في هذا المجال،

وبحُكم أنى في هذا الخندق منذ سنوات فقد دخلت قدرًا في العديد من التجارب مع تلك المنشآت وبعضها للأسف كانت سببًا في تأخر التأهيل لدي وربما حتى أحيانًا سببًا في اليأس وهناك تجارب بالمقابل استطاعت أن تصنع روح تفاؤل جديدة في داخلي بأنني يومًا ما ستعود حياتي الطبيعية لي وأعود لها وامشي على قدمي وأشرب فنجان قهوتي بيدي، وسأذكر أسماء هذه النماذج بكل فخر وقناعة لاحقًا.

ختامًا.. التأهيل ليس نشاطًا إنسانيًا عابرًا، بل عقد اجتماعي يربط بين المجتمع والمسؤولية والمعاق ولنتذكر إن الأمم التي تستثمر في ذوي الإعاقة ليست أممًا تراعي الضعف، بل أممًا تؤمن بالقوة الكامنة في كل إنسان.

لدينا النماذج، ولدينا الطاقات، وما نحتاجه اليوم هو أن يتحول الإيمان إلى منظومة، والمنظومة إلى واقع، والواقع إلى مستقبل يصنعه كل إنسان.. مهما كانت إعاقته.