كم من إنسانٍ حمل فوق كتفيه أحكامًا لم يستحقها، وكم من روحٍ وُضعت في قوالب ضيّقة لأنها لم تُقرأ بصدق. إن الحكم السطحي على الناس ليس مجرد خطأ عابر، بل ظلمٌ يسرق منهم حقّهم في أن يُفهموا كما هم، لا كما يُتخيَّلون.

فالإنسان أعقد بكثير من صورةٍ عابرة أو موقفٍ سريع. بل هو تراكم سنواتٍ من التجارب، وخطوط من الألم، ولمسات من الفرح، وجروح التغيير التي لا يراها أحد. فمن يكتفي بالنظر إلى المظهر أو بالكلمة الأولى، كمن يحكم على كتابٍ من غلافه، فيُضيّع المعنى العميق الذي يختبئ بين السطور.

والسطحية في الحكم لا تؤذي الآخر فحسب، بل تكشف فقرًا في عين صاحبها. لأنك حين لا تعرف إلا القشور، فأنت في الحقيقة تكشف عن ضيق أفقك لا عن حقيقة من أمامك. فكل شخصٍ نحاكمه بخفة، هو عالمٌ قائم بذاته. فقد يكون في صمته ما لا تحتمله ضوضاؤنا، وفي بساطته ما يُربك حساباتنا، وفي كلماته القليلة حكمةٌ لا ندركها إلا بعد غياب.


فالحياة لا تُقاس بالانطباع الأول، ولا بالزوايا التي نُصرّ على رؤيتها... ومن يتعجّل الحكم يظلم نفسه أيضًا، لأنه يحرمها من فرصة اكتشاف ذاتها. فكم من إنسانٍ بدأ في أعيننا بسيطًا أو عاديًا، ثم مع الوقت أدركنا أنه أثمن من كثيرين؟ وكم من آخر أبهرنا في البداية ببريقٍ سطحي، ثم تكشّف خواؤه سريعًا؟

لذا، فالاحترام الحقيقي يبدأ من التريّث... أن تمنح غيرك مساحة ليُظهر لك وجهه الحقيقي، وأن تُدرك أن ما تراه ليس كل شيء، وأن تُقاوم ميلك للتصنيف السريع. فكل إنسان أكبر من خانةٍ ضيقة نضعه فيها، وأوسع من الأحكام التي نُلصقها به.

ولأن الإنسان بطبعه مخلوقٌ متحوّل، فإن اختزال أحدهم في صورةٍ واحدة ظلم مزدوج له وللحقيقة. فاليوم ليس كالأمس، وما يمرّ به داخله لا تراه عينك مهما ظننت. والحكمة أن تعي أن كل حكمٍ تُطلقه ناقص بالضرورة، لأنك لا ترى إلا ما سُمح لك أن ترى.

وفي النهاية، لا أحد يكره أن يُفهَم، ولا أحد يرضى أن يُختصر في لحظةٍ. والكرامة الإنسانية تقتضي أن نكبح عجلة أحكامنا، وأن نتذكّر دائمًا أن الجهل بالناس لا يُبرّر ظلمهم. فالتسرع في الحكم قد يُبعدك عن أقرب الناس صدقًا إليك، وقد يحجب عنك جمال أرواحٍ ما كنت لتعرفها لولا أنك منحتها فرصة.