وهذا لأن المجتمعات خلال الأزمات تميل طبيعيًا إلى التكاتف حول الطائفة أو العِرق بحثًا عن الحماية وصونًا للحقوق.
ثم أصبحت هذه العنصريات واحدة من أكبر العوائق أمام استعادة بناء الدولة، وهذا للأسف أمر يحدث حين تنهار الأنظمة وتغيب الدولة.
لكن اليوم، بعد أن بدأت بعض الدول الخروج من هذه الأزمات أو محاولة الخروج منها، بقي هذا التنوع يشكّل حاجزًا أمام استعادة الدولة، وبدأ كثير من الناس يظنون أن التنوّع ذاته هو المشكلة، وأن الحل هو بوجود دويلات مستقلة لكل عِرق أو طائفة.
بينما الحقيقة أن التنوّع لا يشكّل أي مشكلة عندما يكون داخل دولة عادلة؛ بل على العكس تمامًا، فالتنوّع هو الذي صنع الحضارات الكبرى عبر التاريخ وإلى يومنا هذا.
ومن الملاحَظ تاريخيًا أن الحضارات التي امتزجت فيها الأعراق والمعتقدات والثقافات كانت دائمًا حضارات كبرى.
وحتى في التاريخ الإسلامي، فإن أكثر مرحلتين مشرقتين هما لحظة بغداد العباسية، ولحظة الأندلس. ومن الواضح أن القاسم المشترك بينهما هو ما تكرّر في قصص حضارية كثيرة: امتزاج الأعراق، واختلاط الثقافات، في ظل دولة عادلة لا تميّز بين الناس.
ففي بغداد، كما في الأندلس، تولّى كبرى المناصب أشخاص من ديانات وأعراق مختلفة، رغم أن الحضارات في ذلك الزمن كانت تقوم عادة على الاعتقاد الواحد.
ومع ذلك، سمحت تلك الدولة بأن يتولى مناصب عليا سياسية ومعرفية أشخاص ينتمون إلى خلفيات دينية وعرقية متنوعة، دون أن يُنظر إليهم كغرباء أو خطر، بل كجزء من مشروع حضاري كبير.
وهذا ليس استثناءً، بل هو نمط تاريخي يتكرّر؛ فكثير من المؤرخين يفسّرون صعود الحضارات الكبرى مثل اليونان وغيرها بأنه جاء كنتيجة مباشرة للاختلاط بين الأعراق والثقافات.
والقاعدة هذه مستمرة إلى اليوم، وكبرى الحضارات اليوم قائمة على شعوب متنوعة، وهذا هو أحد أسرار قوتها وتميزها.
واليوم لم تعد ميزة التنوع مجرد نظرية قائمة على أمثلة من التاريخ أو الحاضر، بل أصبح موضوعًا لدراسات علمية تؤكّد ذلك بالأرقام.
ففي عام 2023 صدرت في الولايات المتحدة دراسة حلّلت جوائز نوبل العلمية التي فاز بها أمريكيون منذ عام 2000، وتوصلت إلى أن 40 % من هذه الجوائز، أي 45 جائزة من أصل 112، ذهبَت إلى علماء مهاجرين، رغم أنهم يشكّلون نسبة صغيرة من السكان، وهذه نسبة كبيرة ومثيرة للاهتمام.
وفي العام نفسه، ظهرت دراسة أخرى واسعة النطاق تناولت بيانات 880 ألف مخترع بين عامي 1990 و2016، وتبيّن منها أن المهاجرين، رغم أنهم لا يمثلون سوى 16 % من إجمالي المخترعين، إلا أنهم يقفون خلف 23 % من براءات الاختراع، ويسهمون بنحو 25 % من القيمة الاقتصادية لهذه البراءات.
ومن أعجب ما ذكرته هذه الدراسة أن غياب المخترع المهاجر يخفض إنتاجية زملائه في الفريق نفسه أيضًا، بينما وجوده يرفع مستوى الإبداع الجماعي للجميع، لا إنتاجيته الفردية فقط؛ أي أن وجود أشخاص مختلفين داخل المجموعة يؤثر إيجابيًا في كل المجموعة.
وهذه الأرقام والدراسات الحديثة تمنح التنوّع وزنًا علميًا، لا مجرد مكانة أخلاقية أو استحقاقات تاريخية.
أما الدول التي حاولت أن تقوم على اللون الواحد فقد جلبت على نفسها وعلى من حولها الويل، والأمثلة من التاريخ جليّة.
وفي الختام، من المهم أن يدرك الجميع أن التنوّع ميزة صحية، بل إن دولًا كثيرة في العالم تسعى اليوم إلى صنع التنوّع واستقطابه من الخارج لأنه قوة دافعة ومعزّزة للابتكار.
فكيف إذا كان هذا التنوّع موجودًا أصلًا ومتجذرًا في أبناء الجغرافيا الواحدة؟
وعليه، لا يصح التعاطي مع التنوع كعيب، بل كقوة كامنة يجب استثمارها، شريطة أن تكون تحت مظلة دولة عادلة غير متحيّزة، تحمي الجميع بالتساوي.