ثمة شيء يشبه الخديعة الجماعية، أشبه بطقس يعيد الناس أداءه كل يوم بلا وعي. يفتح أحدهم هاتفه ليصطنع حياة أنيقة ومصقولة، حياة لم يعرفها قط. يبتسم وهو يشعر أن ابتسامته مدرجة على قائمة الديون التي لا يدري لمن يسددها. يخبر الناس عن سعادته فيما العزلة تنهشه بنهم ليلي لا يرحم. كلهم يدورون في الدائرة نفسها، يتقاسمون الوهم، ويصفقون لبعضهم وكل واحد منهم يحمل في داخله سؤالًا مريرًا: لماذا لا أعيش الحياة التي أدعيها؟
والأغرب من هذا كله أن الإنسان بات يخشى أن يتوقف. يخشى أن يُرى في لحظة صمته كما هو: هش، متردد، بلا بريق. لذلك يواصل الركض داخل هذا المسرح الذي لا ينتهي، يخشى أن ينطفئ الضوء فينكشف كل شيء. الإنسان في جوهره يكره الاعتراف، يكره الضعف، ويكره أن يعرف الآخرون أن قلبه لا يزال يرتجف تحت طبقات الادعاء. كأن هشاشتنا جريمة نخفيها، وكأن نجاتنا الوحيدة في أن نخادع العالم قبل أن يخدعنا.
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد منصات، بل مرايا مُضللة. يرى الناس أنفسهم فيها لا كما هم، بل كما يريدون الهروب بأن يكونوا. أصبح كل ما يُعرض في هذا العالم قطعة من ذات مبتورة، مجتزأة، منتقاة بعناية، تخفي أكثر مما تظهر. إنهم يعرضون أجمل لحظاتهم كي يهربوا من قبح أيامهم، ويتحدثون عن نجاحاتهم المتفرقة كي يغطوا على هزائم طويلة صامتة، لا يعلم بها أحد إلا الليل.
ويكمن الظلام في سؤال بسيط: ماذا لو توقفت هذه المرايا يومًا؟ ماذا يبقى من الإنسان حين يفقد جمهورًا لم يكن يراه أصلًا؟ ماذا سيحدث إن واجه كل واحد نفسه من دون تصفية ومن دون فلتر يخفف قسوته؟ في تلك اللحظة تحديدًا، سيعرف الإنسان حجم الفراغ الذي بناه حول روحه. سيتذكر أنه كان يكذب على الناس لأنه لم يعد قادرًا على مواجهة كذب أكبر يكمن في داخله.
الإنسان حين يُعطى قناعًا، لا يصبح أفضل، بل يطلق أعمق أشباحه. وما يحدث اليوم على الشاشات ليس إلا عرضًا طويلًا لهذه الأشباح وهي تتجول في هيئة بشر يُحسنون الابتسام ولا يعرفون ماذا يفعلون بقلوبهم المتعبة.
ووسط هذا الضجيج كله، تبقى الحقيقة الأكثر مرارة: أن الإنسان اليوم لم يعد يبحث عن الحب أو الفهم، بل عن تصديق الآخرين لوهم صنعه بيديه. كأن كل «لايك» هو محاولة ضعيفة لإقناع نفسه بأنه موجود، وأن هذا الوجود يستحق البقاء.
لكن الحقيقة، تلك التي يخشاها الجميع، تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا: كلما ازداد ضجيج هذا العالم، ازداد داخل الإنسان فراغ لا يملؤه إلا أن يعود إلى داخله... إلى ذاته الحقيقية التي طالما خاف أن يراها.