إذن، ليس الموت واحدًا في كل مكان؛ فالموت في أوروبا ليس كالموت في آسيا أو إفريقيا، ولا هو ذاته في المدينة كما في الريف، ولا هو نفسه بالنسبة للمؤمن كما للملحد. وهكذا كان الأمر أيضًا لدى الإغريق والرومان الذين اعتبروا أن الموت هو نتيجة سرقة بروميثيوس للنار من الآلهة، ما جعل نظرتهم إليه مرعبة.
أما في ديانات وضعية أخرى، فالأمر مختلف. فالهندوسية ترى في الموت مجرد انتقال، إذ يذبل الجسد حين يحين الوقت الذي تحتاج فيه الروح إلى جسد جديد، ويعتمد نوع هذا الجسد – أفضل أم أسوأ – على سلوك الإنسان في حياته السابقة. فالموت بداية دورة جديدة، وإن بلغت الروح الكمال، فلن تعود إلى العالم، بل تدخل إلى سوارغا (جنة الأبرار). أما إن بلغت الخطيئة ذروتها، فلن تكون هناك فرص جديدة، بل ينتظرها ناركا (العالم السفلي).
أما في المجتمعات الغربية الحديثة، فقد صار الهدف هو التخلص من الميت بأسرع ما يمكن. فالموت أصبح أمرًا فاضحًا، غير لائق، بل من المحرمات. وكما كتب الفيلسوف جان بودريار: «من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الحديثة، التطور لا رجعة فيه: شيئًا فشيئًا يتلاشى وجود الموتى». اختفت طقوس كثيرة مثل مرافقة المحتضر، أو الوفاة داخل المنزل، أو السهر الطويل إلى جوار الجثمان. وتم حظر طقوس أخرى كمرور الموكب الجنائزي في شوارع المدن أو دفن الميت في أرضه الخاصة. فالمجتمع الرأسمالي لا يحتمل التوقف: الموت أصبح مجرد إجراء سريع يجب إنجازه ليمضي كل شيء في طريقه، ويستمر الجميع في الاستهلاك. يبقى الألم في قلب من فقدوا أحبّاءهم، لكن حتى لذلك وُجدت الحبوب المهدئة. لم يعد الموت يُفهم كعملية تجدد للأجيال، بل كـ نهاية حادة للفرد. حتى الحداد لم يعد جماعيًا بل صار شأنًا شخصيًا. ومع ذلك، لا تزال الطقوس الجنائزية تلعب دورها الحيوي، إذ تساعد على تصريف المشاعر الإنسانية أمام موت الآخرين – كالغضب، والألم، والعجز – وتقوّي روابط التضامن بين الناس.
بل إن هذا الارتباط بالحزن يمتد إلى عالم الحيوان. فإناث الشمبانزي – كما لاحظت الباحثة جين غودال – يحتجن إلى شهور ليتقبلن فقدان صغارهن. وأثبتت الدكتورة كارين ماككومب أن الأفيال تفعل الشيء ذاته، إذ تتعرف على جماجم وأنياب رفاقها الموتى، وتبدي حزنًا واضحًا، بل وتغطي رفاتهم بالأوراق. حتى الغربان والدلافين تُقيم طقوس وداع لأفراد مجموعتها الراحلين.
ولأن العصر الرقمي يبتلع كل شيء، فقد ظهرت تعبيرات مثل «الطقوس الجنائزية الإلكترونية»، إذ يمكن اليوم إنشاء مدونات وغرف دردشة ومنتديات لتخليد ذكرى الراحلين.
لكن ليس كل ما يحيط بالموت حزنًا. ففي نيو أورلينز، تُقام جنازات الجاز الشهيرة، حيث ترافق فرقة موسيقية النعش إلى المقبرة، ثم تعود بنغمات راقصة احتفالًا براحة الروح. وفي غانا، يحضر المجتمع بأسره مراسم العزاء ليأكلوا ويرقصوا ويشاهدوا التابوت الذي غالبًا ما يُصمم بشكل مميز يعكس حياة المتوفي. أما في المكسيك، فيُحتفل بـ يوم الموتى، المصنّف تراثًا ثقافيًا غير مادي من قِبل اليونسكو. يذهب الناس إلى المقابر حاملين الطعام ليقضوا اليوم مع أحبّائهم الموتى، يغنون ويروون قصصهم، ويعدّون خبز الموتى (من دقيق القمح والحليب والبيض والزبدة واليانسون والبرتقال)، إضافة إلى جماجم السكر المصنوعة من الشوكولاتة والأمارانث، وهو تقليد يعود إلى القرن السادس عشر.
وهكذا، تظل نظرتنا إلى الموت مرآةً لمدى إدراكنا للحياة ذاتها، بين من يراها نهاية، ومن يراها امتحانا، ومن يراها استمرارًا، ومن يرقص معها كأنها عودة إلى الأصل.
يذهب الناس إلى المقابر حاملين الطعام ليقضوا اليوم مع الموتى، يغنون ويروون قصصهم، ويعدّون خبز الموتى، إضافة إلى جماجم السكر المصنوعة من الشوكولاتة والأمارانث، وهو تقليد يعود إلى القرن السادس عشر.