لم تعد هناك أسباب موجبة لإبقاء العقوبات، ويفترض أن تُرفع قريباً تلك المرتبطة بـ»قانون قيصر» ولا يتمسك بها سوى الكونجرسيين التابعين للوبي الإسرائيلي، لكن إعلان الرئيس الأمريكي أنه راضٍ عن أداء الرئيس أحمد الشرع ومطالبته إسرائيل بألا تقوم بأي عمل ينعكس سلباً على «تطور سوريا لتصبح دولة مزدهرة» شكلا الدعم الأكثر وضوحاً للحكم الحالي في دمشق. لا يقدم دونالد ترمب دعماً مجانياً، ويُذكر أنه كان يرغب في الانسحاب من سوريا خلال ولايته الأولى. كان أسلافه يرددون دائماً أن «لا مصالح لأمريكا في سوريا»، ربما لأنها كانت مغلقة أمامهم و»سوفياتية» ثم متحالفة مع روسيا وإيران. وفي «الحرب على داعش» بحث الأمريكيون في الاستعانة بالقوات المنشقة عن النظام فاصطدموا بممانعة تركية، لذا اعتمدوا على أكراد «قسد»، لكنهم يكتشفون الآن مصلحة في سوريا موقعاً وقدرات وفرصاً اقتصادية واستراتيجية.
لا يقتصر الأمر على انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، أو على التنسيق مع القوات الأمريكية لمهاجمة خلايا هذا التنظيم، بل يتعداه إلى أن تبقى سوريا خالية من أي وجود إيراني وأن تتصدى لتهريب الأسلحة إلى «حزب الله» (وفقاً للتهنئة التي تلقاها الأمن السوري من قائد «سنتكوم»)، وأن تتيح أيضاً لواشنطن إمكان تحديد حجم النفوذ الروسي في الأراضي السورية. أما في المقلب الجنوبي فترى أمريكا- ترمب في سوريا- الشرع «مصلحة» لإسرائيل، غير أن إسرائيل ترى مصلحتها في التحكم بسوريا وتقطيعها إلى دويلات. لكن هذا يتناقض مع رؤية دول الخليج وتركيا إلى سوريا، ويبدو- حتى الآن- أن ترمب لا يزكي الأهداف الإسرائيلية، من دون أن يدخل في التفاصيل، لكنه لا يزال بعيداً عن إدراك أن اعترافه بـ»السيادة الإسرائيلية» على الجولان المحتل (عام 2017) هو ما فتح شهية إسرائيل للاستيلاء على مزيد من الأراضي السورية.
لن يتأخر ظهور التناقض بين النيات الحقيقية لأمريكا تجاه سوريا وطموحات دمشق في سعيها إلى بناء الدولة، لكن إذا تطابقتا وظل هناك احترام متبادل يدعم المصالح فإن مستقبل سوريا سيغدو مؤثراً إيجابياً وبسرعة في المنطقة عموماً. هذا ما تراهن عليه الدول التي احتضنت الحكم الجديد، وفي طليعتها السعودية التي فتحت أبواب واشنطن أمام الشرع وفريقه، وكذلك الإمارات وقطر وتركيا التي دعمته بأساليب مختلفة حتى عندما برزت أمامه صعوبات داخلية مع فئات لا تزال تشكك في إمكان التعاون معه. واقعياً، تواصل الأطراف جميعاً وضع الحكم تحت الاختبار، تحديداً بسبب الهوية الإسلامية المتشددة التي انبثق منها، على رغم أن الرئيس الانتقالي أعطى شخصياً كثيراً من المؤشرات إلى كونه أجرى (مع عديد من رفاقه في الحكم) مراجعة لتجربته السابقة منتقلاً «من الثورة إلى الدولة». لكن الخارج الذي مد اليد إليه ينتظر الضوابط التي تؤكد التوجه نحو «دولة القانون»، كما يطالبه بـ»المعايير» التي يمكن أن تبعده عن استبطان نمط جديد من الاستبداد.
منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام السابق انهالت التحذيرات الخارجية من تفجر مشكلة الأقليات (بيان اجتماع دولي في العقبة 14.12.2024)، وهذا كان متوقعاً في أي حال، لكن لم يكن متوقعاً من الحكم الجديد أن يبادر إلى تسويات تفضي إلى إقامة «دويلات» طائفية أو عرقية، بل دعا إلى توحد الجميع في اطار دولة واحدة، وسيظل هذا الاستحقاق ماثلاً أمامه كي تواكب المصالحات الداخلية مسلسل النجاحات في الخارج. وفي الانتظار سيواصل أكراد «قسد» المراهنة على تبدل الظروف الإقليمية من دون أن يتخلوا عن حلم «دولتهم»، وسيواصل دروز حكمت الهجري المراهنة على إسرائيل لبلورة مشروع «انفصالهم»، وسيواصل العلويون المراهنة على روسيا كي يظفروا بـ»دويلة»، ولا مشروع للمسيحيين سوى ترسيخ وطنيتهم وأصالتهم في البلد علهما تؤكدان أن «تحول» الإسلاميين حقيقة أو تكشفان أنه مجرد تمويه.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»