كان شيخًا يجرّ خلفه تسعين سنة من التعب. جسده وهن... وذاكرته ذبلت، أقرب إلى الشجرة اليابسة التي كانت يومًا تُظلّ بيتًا وتحتها أرجوحة. نسي كل شيء تقريبًا... أسماء أولاده، أعمارهم، ترتيبهم...

ونحن... لم نعد ننتظر منه أن يتذكر، بل نكتفي بأن يبتسم، أن ينظر إلينا وكأنه يعرفنا، حتى لو لم يعرف.

إلى أن جاء ذلك المساء. كان صامتًا على غير عادته... ثم أدار رأسه ببطء، وحدّق في ابنه الأكبر طويلًا... وقال بصوت خافتٍ كأنما يخشى أن يوقظ الحزن:


«أين أبي؟ من زمان ما شفته».

لم نردّ. ربما لأننا لم نفهم السؤال أولًا، وربما لأننا كنا نحاول ألا نفهم. لكن الابن تمتم أخيرًا:

«أبوك... مات، من أربعين سنة، يا يبه» سكت الشيخ... ثم ارتجف. كأن شيئًا انكسر فجأة داخله بعد أن ظلّ متماسكًا لسنين.

قال بذهول:

«يعني... أنا من غير أب من أربعين سنة؟»

ثم بكى. دمعة واحدة سقطت، لكنها كانت كافية لتغرق قلوبنا. حينها أدركنا شيئًا لم نكن نعرفه: أن أقسى أنواع الفقد، هو الذي لا نعيشه إلا متأخرين. وأن بعض اليُتم لا يبدأ في الطفولة، بل يُزهر فجأة في الشيخوخة، حين تتقشر الطبقات الأخيرة من التماسك. لم يكن ذلك الرجل الذي بكَى... أبانا. كان هو، لكن دون صلابته، دون صوته الجهوري، دون نظراته الحاسمة. كان رجلًا صغيرًا...

بلا أب. وحين بكى لأنه بلا أب... أدركنا كم نحن فقراء لو لم يكن لنا أبٌ، ولو في صورة شيخٍ نسي كل شيء... إلا الشعور باليُتم.