تطرقت في مقالٍ سابق إلى بعض السلوكيات السلبية داخل سرادق العزاء، سواء السلبيات التي تصدر من قِبل المعزين أنفسهم، أو السلبيات التي تقع من ذوي المتوفى مع كل أسف.

المقال أخذ حقه ونصيبه في التبيان والإيضاح، هذا ما أعتقده، وأعتقد أيضاً أن تسليطي الضوء على هذه التجاوزات والتحذير منها كان كافياً ووافياً إلى حدٍ كبير، على افتراض أني وضعت يدي على جرح لا أريد أن يستفحل ضرره. كنت أعتقد ذلك، حتى وصلني تعقيب يفيد بأن التجاوزات التي أشرت إليها في ذلك المقال هي تجاوزات منتشرة بالفعل، وبصورة واسعة في المجتمع، لكنها ليست محصورة في ما ذُكر، ولا مقصورة على معشر الرجال فقط كما هو مذكور في المقال، بل هناك سلوكيات وتجاوزات تصدر من النساء لم أشر إليها مع أنها تفوق في بشاعتها ما يحدث في سرادق عزاء الرجال على حد التعقيب.

هذا التنبيه والتعقيب استدعى مني العودة إلى الموضوع مرة أخرى، وإعادة تحريره وصياغته مجدداً من زواية أخرى، بعد أن أتضح لي أن التجاوزات التي تقع في جانب الرجال لا تشكل شيئاً قياساً بما يقع في جانب النساء، فتجاوزات الرجال السلبية تعد بسيطة ونسبية مع عظمها، لذلك ارتأيت أنه من الضروري معاودة الكتابة في هذا الشأن مرة أخرى، فلربما وجد مقالي مبتغاه، باعتبار أنه يصب في الأساس بوعاء النصح والإرشاد.


رصدت مظاهر وممارسات وسلوكيات جسيمة تصدر عن العنصر النسائي في سياقات مختلفة، استقيتها من مصدر عايش الوضع القائم داخل بيوت العزاء في بعض المجتمعات. إحدى هذه المصادر تقول إن مشاعر الحزن غابت أو كادت تغيب عن مشهد العزاء تماماً، وحلت مكانها مظاهر البهجة والفرح، في إشارة إلى الوضع المؤلم الذي تفشى فيه الصخب والضحك واللعب، والرقص في بعض الأحيان على أنغام الأناشيد الدينية، وبوفيهات الطعام الفخمة التي تعد سلفاً لتلك المناسبة، والتي تحتوي على أصناف عدة مما لذ وطاب من طعام وشراب بصورة تفقد المقام أجواء السكينة وروحانية الحزن.

ولقد أصبحت من أساسيات وأولويات العزاء، فالبعض لا يحضر إلا من أجل ذلك الطعام، وكأن المقام مكان احتفال لا عزاء مع بالغ الأسف. ومن المظاهر السلبية أيضاً توزيع الهدايا والحلوى، وإحضار مباشرات مختصات لتقديم القهوة والشاي للضيوف (المعزين)، على الرغم من وجود من يؤدي هذا العمل من الحضور أو من ذوي المتوفى!

بل هناك من ذهب إلى تخصيص «زي خاص» يرتديه ذوو المتوفى طيلة أيام العزاء، غير الزي الأسود الذي ألفناه، والذي يشير بطبعه للحزن وألم الفقد، فهناك زي خاص للبنات الصغيرات، وزي ترتديه الشابات، وآخر لكبيرات السن. أما مساحيق التجميل والميك أب الخاص بهذه المناسبة فحدث ولا حرج. كما خُصصت زوايا وأركان خاصة لتقديم الأرجيلة والمعسلات، في تناقض صارخ مع المناسبة والمكان.

أتوقف هنا لأضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعة التعامل مع مثل هذه الأحداث والمواقف، حتى فقد العزاء معناه الحق.