هناك لحظات تشعر فيها أن الزمن يُعيد ترتيب نفسه، وأن شيئاً كان غائباً عن الوعي العربي يعود فجأة بكامل بريقه وضرورته. هذا ما حدث في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025، الذي أصبح خلال سنوات قليلة علامة فارقة في المشهد الثقافي السعودي والعربي. ليس لأنه حدث تنظيمي مميز فحسب، بل لأنه أعاد الاعتبار لما يمكن تسميته «الكرامة العقلية» للأمة: الفلسفة.

أن يكون عنوان دورة هذا العام: «الفلسفة بين الشرق والغرب: المفاهيم، والأصول، والتأثيرات المتبادلة»، فهذا وحده يفتح بوابة واسعة للتأمل.

الفلسفة ليست ملكاً لقارة ولا حِكراً على هوية. هي حوار ممتد بين الحضارات، رحلة تراكبت فيها الأسئلة بين أثينا وبغداد وقرطبة وباريس وبكين. والمملكة اليوم تعيد وصل هذا الخيط المنقطع، وتعيد للعقل العربي مكانه الطبيعي في هذا الحوار الكوني بعد أن غابت الفلسفة عن ساحته لقرون طويلة.


أجمل ما في المؤتمر أنه يعترف بالفيلسوف. يحتفي به. يضعه في الضوء الطبيعي الذي يستحقه.

ففي ثقافتنا العربية، اعتدنا أن يكون الفيلسوف «كائناً هامشياً»، يعيش في الظلال أو يُتهم بالمبالغة أو التعقيد. أما مؤتمر الرياض فقد أعاد للفيلسوف مكانته الأخلاقية والمعرفية، وقدّم رسالة واضحة: من يفكر بعمق، يُكرَّم بعلانية.

هذه لحظة مهمة في الرحلة الثقافية للمجتمع السعودي، لأنها تخلق شرعية جديدة للفكر العميق، وللباحثين الذين يقضون أعمارهم في الأسئلة الكبرى للوجود والمعنى والأخلاق. التكريم هنا ليس احتفالاً بشخص، بل اعترافاً بقيمة الفلسفة كضرورة للحياة الحديثة.

العنوان نفسه - الشرق والغرب - ليس مجرد محور أكاديمي، بل مشروع حضاري. في عالمٍ يتسارع فيه الانقسام، يأتي المؤتمر ليقول: الحضارات لا تتنافس؛ بل تتحاور. الفكر لا ينمو في عزلة، بل عبر التأثيرات المتبادلة التي تصنع من الإنسان كائناً قادراً على الفهم لا على الرفض.

كان لافتاً ذلك التنوع في المشاركين: مفكرون من آسيا، فلاسفة من أوروبا، باحثون من العالم العربي. وكلٌ منهم يحمل سؤالاً مختلفاً، لكنه يصب في نهر واحد: كيف نبني فهماً مشتركاً للعالم، دون أن نفقد خصوصية كل حضارة؟

هذا الربط بين الشرق والغرب لا يقل أهمية عن بناء الجسور المادية، لأن الجسر المعرفي هو الذي يغيّر طريقة نظر الإنسان لنفسه ولغيره.

لا يمكن تجاهل الرمزية الكبيرة لهذا المشهد: بلد عربي يعقد أكبر منصة فلسفية في المنطقة، يناقش مفاهيم ويقارن تأثيرات، ويتحدث عن جذور المعرفة بجرأة ومسؤولية. هذه ليست مجرد ندوة، بل عودة مؤسساتية للفلسفة إلى المجال العام، بعد أن حُوصرت طويلاً داخل الكتب أو بقيت في الهامش الأكاديمي.

المؤتمر يقول بوضوح: الفلسفة ليست ترفاً... بل ضرورة اجتماعية وأخلاقية. هي التي تعلّم الإنسان كيف يفكر، كيف يختلف، كيف يحترم الآخر، وكيف يضع أسئلته في مكانها الصحيح. ومتى غابت الفلسفة غاب معها الحس النقدي، وارتبكت الأخلاق، وضعفت القدرة على فهم العالم.

لا يمكن الكتابة عن المؤتمر دون الحديث عن التنظيم الذي عكس روح الفلسفة نفسها: الدقة، الجمال، والاحترام. من لحظة الدخول يشعر الزائر بحفاوة الضيافة، ورحابة الاستقبال، وترتيب التفاصيل بعناية لافتة. الأفكار قُدمت بنقاء، الجلسات أُديرت باحتراف، والنقاشات كانت حية وممتعة، وكأن المكان نفسه يشجع على التأمل.

هذا النوع من المؤتمرات لا يُحدث تغييراً في أسبوع واحد، لكنه يترك أثراً طويل المدى. يعيد تشكيل الوعي، ويعيد الثقة في المعرفة، ويعلن أن النهضة الجديدة تبدأ من العقل؛ لا من التقنية وحدها.

مؤتمر الرياض للفلسفة ليس مجرد حدث ثقافي؛ هو إعلان أن العقل العربي يعود إلى الساحة، هذه المرة بثقة ووضوح ووظيفة اجتماعية.

وحين تكرّم الفلسفة، فأنت تكرّم الإنسان نفسه، لأنه في النهاية لا شيء يرفع الإنسان أكثر من قدرته على السؤال.