قبل أيام، أعلنت منظمة اليونيسكو اعتماد ثلاث مدن سعودية جديدة ضمن شبكة «مدن التعلّم”، وهي: الرياض، العُلا، ورياض الخبراء، ليرتفع عدد المدن السعودية المعتمدة إلى ثمانٍ تشمل الجبيل، ينبع، المدينة المنوّرة، الأحساء، ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية. هذا التوسع يؤكد رغبة وطنية واضحة في تبنّي مفهوم «التعلّم مدى الحياة”. لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: كيف ننتقل من مرحلة الاعتماد... إلى مرحلة التأثير؟

فكرة «مدينة التعلّم” في جوهرها ليست لقبًا تشريفيًا ولا إضافة تجميلية، بل مشروع حضري متكامل يُفترض أن ينعكس على المدرسة والبيت والحي ومكان العمل. وفي التجارب الدولية، نرى أن المدن التي استفادت فعليًا من هذا الاعتماد لم تكتفِ بالانضمام للشبكة، بل حولت اللقب إلى منصة للتحول التعليمي والمجتمعي. ففي بعض الدول الأوروبية، أدى اعتماد مدينة واحدة إلى إطلاق مئات الفعاليات التعليمية المفتوحة سنويًا، وإشراك الكبار والمهاجرين في برامج المهارات الأساسية والرقمية، وتفعيل دور المكتبات والأحياء التعليمية، مما رفع معدلات المشاركة وشجّع السكان على الاندماج في التعلم المستمر.

وفي دول أخرى، استُخدم الاعتماد لبناء جسور بين المدرسة وسوق العمل، فتم توسيع مسارات التأهيل المهني، وتحسين المهارات الرقمية، وتطوير الشراكات بين المدارس والقطاع الخاص. وقد انعكس هذا مباشرة على جاهزية الشباب لسوق العمل وعلى تراجع ظاهرة العزوف الدراسي، لأن الطالب أصبح يرى قيمة ما يتعلمه ويرى مستقبله مرتبطًا به. هذه التجارب الدولية تتفق في نقطة أساسية: مدينة التعلّم الناجحة هي التي تجعل التعلم جزءًا من الحياة اليومية، لا حدثًا مناسباتيًا.


وعند النظر إلى مدننا السعودية المعتمدة، تبدو الصورة حتى الآن غير مكتملة. فعلى الرغم من الحصول على الاعتماد الدولي، لا توجد بيانات أو أرقام منشورة تُظهر تراجعًا في نسب الغياب أو ارتفاعًا في دافعية الطالب للتعلّم وهما المؤشران الأهم في تقييم أي مشروع تعليمي. فإذا لم تنخفض نسب الغياب داخل المدن الثماني، فهذا يعني أن المدرسة لا تزال غير جاذبة بما يكفي، وأن العلاقة بين الطالب والمحتوى التعليمي لم تتحسن بعد. وإذا لم ترتفع دافعية الطالب، ولم يشعر بوجود فرص تعليمية خارج حدود المنهج، فهذا يشير إلى أن «مدينة التعلّم” ما زالت فكرة أكثر منها ممارسة.

اعتماد مدينة ما ضمن شبكة اليونسكو يجب أن يكون البداية، لا النهاية. فالتجارب الدولية تثبت أن التحول الحقيقي يبدأ عندما تمتلك المدينة مؤشرات أداء واضحة: ازدياد معدل القراءة في مدينة التعلم، تحسين القراءة في الصفوف المبكرة، توفر برامج للكبار، شراكات مع مؤسسات العمل، مبادرات للمهارات الرقمية، وتفعيل المكتبات والمراكز المجتمعية. هذه النتائج هي التي تجعل المدينة بيئة تعلّم حقيقية، لا مجرد اسم في قائمة دولية.

اليوم، وبعد توسع قائمة المدن السعودية المعتمدة، نحتاج إلى خطوة أكثر جرأة: تحويل الاعتماد إلى أثر. نريد أرقامًا واضحة تقول: انخفض الغياب، ارتفعت الدافعية، تحسّنت مهارات القراءة، تضاعفت البرامج المجتمعية، ونمت فرص التعلم للكبار. حينها فقط يمكن القول إننا انتقلنا فعلًا من «الاعتماد”... إلى «التأثير”.