في مقالها الموسوم بعنوان: «قراءة لوكاتشية لرواية مسرى الغرانيق في مدن العقيق» للكاتبة والناقدة زكية العتيبي، استشهدت بمعايير الرواية التاريخية للناقد المجري «جورج لوكاتش». وأحد المعايير التي وظفتها الكاتبة في مقالتها هو «عدم إسقاط وعي الحاضر على الماضي». وذكرت أن الرواية حققت معايير الرواية التاريخية ومنها المعيار الأهم - بالنسبة لي - «عدم إسقاط وعي الحاضر على الماضي». فهل نجحت الروائية أميمة الخميس فعليا في تجنب إسقاط وعي الحاضر على الماضي - كما أشارت لذلك الكاتبة زكية - أم أن المقالة في الحقيقة لا تخرج عن دائرة القراءة التقديرية التي تتبنى منظورا متعاطفا مع الرواية.

الرواية لم تخرج عن الثنائية المعاصرة «الشرق والغرب» أو الفلسفة اليونانية باعتبارها موروثا أوروبيا غربيا والفقه الإسلامي باعتباره موروثا عربيا شرقيا، ونجد التراث اليوناني - ممثلا في الفلسفة - تقدمه الرواية تراثا تنويريا ونزعة تبحث عن المعرفة والانفتاح، مقابل الفقه العربي الذي يقدم بأنه «ظلامي ونزعة تميل إلى الانغلاق والخوف من الأسئلة بل وأداة سلطوية لقمع السؤال». بطل الرواية يتحرك بين مدن كانت مراكز للفلسفة والترجمة، وتصور رحلته بأنها مسار تجاه الأنوار مقابل الظلام والانغلاق. الفلسفة في الرواية تبدو الضحية المضطهدة التي تواجه قوى الظلام والقمع. وبطل الرواية عضو في جماعة سرية لا أحد يعرف فيها الآخر لدواعٍ أمنية، حاملين على عاتقهم إنقاذ كتب الفلسفة. وهنا نجد تصويرا سوداويا للشرق (فقه متشدد، انغلاق، رقابة) مقابل الغرب (عقلانية، أسئلة، أنوار) وهذه الثنائية هي خطاب حديث أكثر من كونها فكرية أصيلة للقرن الرابع عشر. الرواية تقترب من التاريخ شكليا ولكنها تسقط وعي الحاضر على الماضي، وتطرح إشكالات معاصرة في سياق مجتمع قديم، فخطاب التنوير مقابل الظلام، والشرق مقابل الغرب، والمثقف مقابل السلطة، وإنقاذ الكتب من الرقابة، كلها مفردات واهتمامات حديثة جرى إسقاطها على حقبة تاريخية أوسع وأعقد من هذه الثنائية.

توظيف الفلسفة في الرواية يعيد إنتاج خطاب «المركزية الأوروبية» لأنها تضع فلسفة اليونان في موقع العقل الكوني، وبذلك فالرواية -دون قصد على الأرجح- تكرس سردية أيديولوجية منشؤها الاستشراق، وتستخدم ثنائية نور الغرب مقابل ظلام الشرق، ومثل هذا التصوير ينسجم مع خطاب حداثي ما بعد استشراقي أكثر مما ينسجم مع تصورات القرن الرابع الهجري. وبالتالي يمكن القول إن الرواية لم تلتزم حرفيا بمعيار لوكاتش: «عدم إسقاط وعي الحاضر على الماضي». وأن قراءة الناقدة العتيبي كانت في الغالب تقديرية تميل إلى التعاطف مع الرواية أو كاتبتها، وتعاملت مع الإطار الزمني للرواية فقط بوصفه كافيا لتصنيفها «تاريخية» دون التدقيق في عمق الوعي السردي. وهذه القراءة ليست لوكاتشية صارمة.


ما ذكرناه آنفا قد يثير الشكوك حول مفهوم «الرواية التاريخية» من الأساس، وهل يمكن فعلا بناء رواية متكاملة بالاعتماد على الوثائق التاريخية؟ فكتب التاريخ حفظت لنا الأحداث الكبرى والحروب وسير القادة والعظماء، ولكنها تجاهلت المشاعر اليومية وتفاصيل حياة الناس البسطاء، فالمؤرخ الخبير لا يعرف التفاصيل الحياتية لمجتمع عاش قبل ألف سنة، فكيف بالروائي! وعنصر التخييل لا يمكن أن يسعف الأديب في معرفة نفسية الناس وعاداتهم اليومية ونظرتهم للسلطة والدين والحياة والإيقاع الاجتماعي للأفراد. تفاصيل حياة أبناء الطبقة الكادحة معظمها ضائع أو غير موثق، بمعنى أن تحقيق معايير جورج لوكاتش للرواية التاريخية قد يستحيل على الأديب تحقيقها، فالشخصيات والأحداث يجب أن تفهم ضمن سياقها التاريخي وليس وفق قيم أو أسئلة العصر الحديث. معايير لوكاتش تتطلب دقة لتصور عقلية البشر في الزمن التاريخي وفهم تعقيدات المجتمع. فالرواية وإن كان إطارها الزمني قديما فإنها تحمل ثنائيات معاصرة مثل (الشرق/الغرب، الظلام/النور، المثقف/السلطة)، وشخصياتها تتصرف وفق قيم العصر الحديث. ببساطة يمكن القول إن الرواية لم تقدم التاريخ كواقع معقد يتفاعل فيه الناس، بل استخدمته كخلفية رمزية لصراع قيم حديثة.