الإفراط في التشخيص لا يعني التشخيص الخاطئ، بل تشخيص حالات لن تسبب ضررًا يذكر لو تركت دون اكتشاف أو علاج، سواء لأنها غير ذات أهمية سريرية أو لأنها لن تتطور لمرض فعلي وليس لها تبعات. التقدم الهائل في الأشعة والتحاليل الجينية جعل الطب يرى ما لم يكن يراه سابقًا، كعُقد صغيرة، تكلسات بسيطة، طفرات جينية غير مفسَّرة، ارتفاعات طفيفة لا قيمة سريرية لها. المريض يسمع كلمات كبيرة مثل «كتلة، تغيّر، علامة محتملة»، فيصاب بالهلع، رغم أن كثيرًا من هذه الاكتشافات لا تستدعي علاجًا أو تدخلًا جراحيًا. ثقافة المجتمع تلعب دورًا مهمًا اليوم. يدفع الخوف من السرطان، الجلطات، أو الوفاة المفاجئة، الناس لإجراء فحوصات لمجرد القلق، بل أصبح بعضهم يطلب تحليلا شاملا في كل زيارة للطبيب، فيواجه الطبيب - الحديث بالذات - ضغوطا كبيرة، فهو لا يريد أن يُفوت تشخيصًا خطيرًا، يخشى المساءلة القانونية، يشعر بالحاجة لطمأنة المريض القلق، وأحيانًا كثيرة يعمل ضمن «نظام صحي يشجع زيادة الفحوصات»!
في هذا السياق يصبح قرار عدم الفحص أصعب من قرار الفحص نفسه، لكنّ نفوذ الطبيب يكمن أحيانًا في الامتناع وليس في الموافقة على كل ما يُطلب منه، فهذا السلوك يُحوِّل الطب من علم قائم على الأدلة والشواهد إلى خدمة حسية هدفها الطمأنة! والنتيجة هي، اكتشافات غير مهمة سريريًا تقلق المريض، ثم سلسلة لا تنتهي من المتابعات والعلاجات غير الضرورية. هذا التحوّل من التشخيص المهم إلى تشخيص غير مهم، يشكل تحديًا أخلاقيًا ومنهجيًا للنظم الصحية الحديثة.
الإفراط في التشخيص لا يرهق ميزانيات المستشفيات فقط، بل يرهق المرضى نفسيًا وبدنيًا. إجراءات قد تكون مؤلمة أو تنطوي على مخاطر، علاجات لم يكن لها داعٍ في الأصل، وهدر للموارد قد يُصرف على مرضى أكثر حاجة. أتذكر إحدى الأمهات أتت تشتكي من وجود أربعة حوالب لدى مولودتها! كانت منهارة، تقول إن التصوير التلفزيوني لطفلتها أظهر ذلك، سريريًا حالتها جيدة، وبعد تأكدي من عدم وجود التهاب في البول طلبت أشعة تصوير المثانة والإحليل الإفراغي، والتي أظهرت أن للطفلة حالبين فقط وكليتين سليمتين ومثانة طبيعية. من الصعب إقناع الأم أن طفلتها سليمة، كانت تردد (دكتوره كيف تعيش بأربعة حوالب!)، لم تصدق، وأعتقد أنها ما زالت تطوف بها على الأطباء. السؤال الذي راودني وقتها «من طلب تصوير بطن المولودة دون ضرورة طبية، والتي لم تكن واضحة لحد اشتباه وجود حالبين لكل كلية»!
السؤال الأهم: كيف نميّز بين التشخيص المبكر المفيد والإفراط في التشخيص؟ الإجابة ترتكز على ثلاثة أسئلة، هل سيغير الفحص مسار العلاج؟ هل الفحص فعال لهذه الفئة العمرية أو هناك تشخيص أبحث عنه يحتاج هذا الفحص؟ هل الخطر المحتمل للفحص يفوق الفائدة؟
الحل لا يكمن في تقليل الفحوصات، بل في تعليم الممارس الصحي والمجتمع معنى التوازن، التقدم الطبي المعاصر عظيم، لكن دون وعي يُحوّلنا إلى أسرى لأجهزة الفحص والمختبرات، لا إلى صناع للقرار.
طبٌ بلا حكمة، يتحول إلى سلسلة من الإجراءات غير الضرورية.