وتاريخ النيش يذكرنا بتاريخ الكتابة الإبداعية، إذ هي -كالعطور وككوةِ سهيل ابن أبي صالح- تعيش تخمةً وإنتاجًا يتشابه «كتشابه الأوراق في الغابات»، بمحتوى سريعٍ وصاخبٍ يُصمّ الآذان عن صوت فريد، فالكتابة الإبداعية التي كانت تستلذ بكوّة صغيرة -تشتعل بالصبر والزمن البطيء- أصبحت عملية شبه آلية، كلماتها سِلَع في سوقٍ أعمى، ومعانيها كأنَّها (بلاستك) أعيد تَدويره. ويبدو أنَّ السوق فعل فعلته في الكتابة كما فعلها في العطور، والذي يهم المقالة -هنا- أنَّ التغير يمسّ بنية الحسّ لدى الكاتب والقارئ على حدٍ سواء، أعني أنَّ كوّة الكاتب أُعدمت، فوجد نفسَه وسط الضجيج، ولكي يسمعه أيّ أحدٍ من المارّين لابدَّ أن يصرخ مثلَ الناس، أن يُهمل لغتَه ويُسرِّع إيقاعه وينسخ فكرته من أصواتِ الناس. وهذا ما جعل المقالةَ تلتقط التشابه بين رائحةِ عطر النيش القديم ورائحة الكتابة الهادئة المدهشة، ذلك التشابه الذي يُذكّرنا بأنَّ الندرةَ عملةُ الإبداع، لذلك فإنَّ طرح مفهوم (النيش الكتابي) محاولة مهمة لاستعادة ما ضاع من الكتابة حين فقدت كوّتها التي تحمي الدهشة من الابتذال، وتحمي الكاتبَ من سُرّاق المعاني في دكاكين الأسواق، لهذا أظنُّ -ظنًا فيه إثم- أنَّ الكتابةَ الإبداعيّة اليوم تُشبه صراعًا تطوريًا بين (الميمات) السريعة والنصوص البطيئة، ونعني بالميم -ما قصده ريتشارد دوكينز- «الوسيلة التي تستخدمها الثقافة لتمرير أفكارها»، والميم لكي ينجح سيحتاج إلى ثلاث خصائص أولها القدرة على الانتشار السريع والكثير، وربما هذا ما يجعل النص القصير المتفق مع اختيارات القارئ ومشاغله العامة تتفوق على النص الذي يُحاك من تجاعيد الزمن والدهشة، وثانيها القدرة على البقاء في الذاكرة الجمعية زمنًا أطول من غيرها، وربما هذا ما يجعل النَّص (الشعاراتي) أطول نفسًا من النَّص المدهش، وثالثها القابلية لأن تُنقل كما هي من عقلٍ إلى آخر بلا ذاتٍ تُعرقل سيرورةَ الأسلوب العام، لهذا أزعم أنَّ الميم كلما كان قصيرًا وبسيطًا وقليلَ التفاصيل نجح في النَّقل بلا عرقلة كاتبٍ مدهش، ولهذا لا تلوم المقالةُ السوقَ حينما يُفضّل الميم الثقافي الخفيف على النَّص الذي ولد من موهبة لاشعورية ذاتية في ابتكار الأفكار وحياكتها، لكنَّ المقالةَ تسأل سؤالًا بريئًا ساذجًا: هل الكتابات النيشيّة سيكون مصيرها مثل الكائنات التي هُزمت في صراع البقاء؟ في هذه اللحظة التي أكتب هذا السطر يقف عصفور على نافذتي فذكرني بحديث أبي فراس الحمداني للحمامة: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة/أيا جارتا هل تشعرين بحالي»، قلتُ للعصفور ساخرًا: لقد بقيتَ أنت يا صديقي وانقرض الديناصور.
التفاتة:
الخلل هو الفرجة بين الشيئين فلا تسدوا الخلل.