كان الجابري قد قسّم العقل العربي السياسي إلى ثلاث عقليات: عقلية تصارع من أجل العقيدة، وأخرى تصارع من أجل الغنيمة، وثالثة تصارع من أجل القبيلة.

والعقلية الأولى تنطوي على نوعين ضمنًا – لا بد منهما هنا- النوع التأويلي وهم أكثر العَقَديين، والنوع الحَرفي الخارجي... وهي عقليات ما تزال حية إلى اليوم.

وفي سوريا اليوم:


أهل العقيدة (تأويليون وخوارج) قد ماتوا (التأويليون في معتقلات التعذيب والتصفية الطائفية) و(الخوارج في ساحات الوغى السورية)، ومنهم من ينتظر وما بدّل: وهذا المُنتظِر لا يجيد إلا سفك الدماء أو بذلها.

وأما ساحات اليوم فهي ميدان صراع بين أهل الغنيمة (والمكاسب)، وأهل القبيلة (والطائفية).

فسوريا بين: صادقٍ لا يجيد إلا إنتاج الدم، وكاذب يدبّج، وطائفي يحرّض. وهذان الصنفان- الأخيران- على استعداد للبيع والخيانة في سبيل ملء جيوبهم، أو تفريغ أحقادهم.

وأما المنتظرون، على قلتهم، فهم على استعداد سواء: لشرب الدماء والجود بها.

وثمة ظاهرة مرافقة، ناتجة عن طغيان الحالتين، الطائفية والانتهازية الوصولية، على الساحة السورية؛ إذ نجد الانفصام الشعبي والاضطراب الجماهيري العصابي. وبالمقابل من ذلك نجد النفاق السياسي الفاضح:

يظهر العصاب الجماهيري من خلال الهيستيريا الطائفية والعرقية العمياء؛ فالسوريون اليوم حالهم حال الطائفتين في صِفِّينَ: تخلع لهم عليَّكَ، يرضَون عنك ويَرَوك مواطنًا صالحًا وإنسانًا راقيًا؛ تطلبْ منهم خلع طائفيتهم ، ينفروا منك ويرموك بلمح البصر بكل ما يكذّب توصيفهم الأول لك؛ الصدق الوحيد في حالتيهم: أنهم مضطربون في الحالين، وبعيدون عن منطقَي التسامح والمواطنة، وجدير بهم زيارة عيادة طبيب نفسي.

وأما الانتهازية الوصولية فتتمثل جلية في معارضة اليوم، التي تشن هجومًا لا هوادة فيه على سلطة اليوم- وهو، أي الهجوم، ظاهرة صحية في هذا الجانب- وتتصيد عليه أنفاسه وتحصي له حركاته؛ فتجعل من ابتسامة الرئيس المؤقت نادرة جديرة بالنقد والتندّر والسخرية. وهذا التصيد- أيضًا- لا مشاحّة فيه، وإن كان لا يرتقي إلى مستوى المعضلات الكبرى الجديرة بتكريس أهلِ الهممِ جَهْدَ سياساتهم لها من دون سفاسف الأنفاس التي خُلقت لتليقَ بتنكيت المهرّجين واليوتيوبريات الرخيصة.

وأما الفاضح المزعج فهو جانب ثالث، لا علاقة له بالسابقَين: المتمثلَين بالهجوم العنيف الذي لا يعدم صوابًا، ولا بالسخرية المبتذلة التي لا تعدم تدليلًا ودلالة على ذهنية أصحابها المعرفية والأخلاقية.

لقد مر عام كامل لتسقط سوريا في براثن الافتراس الطائفي والعنصري المقيت والمكشوف. وهو، أي السقوط الطائفي العنصري – وإن كان حالة موجودة سابقًا- إلا أنه لم يكُ ظاهرة مشرّعة مفضوحة مثل اليوم، وكأن شعارات الوطنية والمدنية والوحدة كانت سجنًا، شهد العالم تحطّمه يوم الثامن من ديسمبر، مع ما تحطم من خير وشر.

فضلًا عن ذلك تقيّح الجسد السوري الملوث بأعوام الصراع بفضالة من صبية فيسبوكرية/يوتيوبرية، تلهث وراء الظهور والشهرة، وهذا نصف القيح، وأما نصفه الآخر في بثورها ودماملها التي تنفقئُ على تهييج طائفي مضمر، أو اصطفاف طائفي معكوس؛ وذلك من خلال فكرة جمعية تدور في أذهان هذه العينة التي تعتقد أن هناك اصطفافين أو حزبين في سوريا: حزب الأكثرية السنية التي صارت محسوبة بحكم الواقع السياسي الراهن على التوجه الراديكالي الأصولي المتشدد والمنبوذ دوليًا، وثمة حزب الأقليات الطائفية والعرقية المحسوبة على التوجه الغربي (العصري) الذي لا يمكن أن يخذله النظام الدولي في آخر المطاف بحسب فهم هذه العينة وحساباتها الميدياوية؛ فاختارت هذه العينة الجانب العصري، ليس لأنه المضطهد ولا لوطنيته، ولا لأحقية دعمه، وإنما لأنه هو الذي ستنقذه سفينة النجاة الدولية، بعد أن تترك في نهاية المطاف الحزب الآخر رهين غرقه؛ فهؤلاء اختاروا ما يدور في رأسهم من صفقات تجارية أشبه بلعبة (بلاي ستيشن)، فهم مع الحزب الثاني تجارةً ومحسوبيةً، وربما تمويلًا، وليس أدل على ذلك من استلابهم الصبياني السخيف لطائفية معكوسة: تتمظهر بتجاوزها الاصطفاف الطائفي العرقي، فتصطف اصطفافًا طائفيًا/ عرقيًا من جانبه الآخر، وتسهم في تمرير أخطاء من دون أن تشعر بذرة خجل من تصابيها وتسافهها؛ هي - وإن لم تقع في براثن التعصب الأعمى لطائفتها- فقد اختارت التعصب المبصر للحزب الآخر تجارة وعصرنة، وتعاميًا أخلاقيًا عن أخطاء صادمة تقترفها القوى الفاعلة والعناصر المركزية في الحزب الآخر، الذي تسعى طبقته الكهنوتية والبلطجية والمافيوزية إلى تحويله من سعي نحو غايات وطنية محقة إلى حلف أقليات مُعد ومعادٍ: جبهة معادية لجبهة، ونصرة معدة في وجه نصرة أخرى.

وأما الداهية النكراء وأفدح الفواجع فهي تلك المعارضة التي وصفناها في أول المقال، وفداحتها ليس في هجومها المحق في أغلبه على سلطة اليوم، وإنما في تغاضيها عن الأطراف الأخرى الفاعلة في الداخل السوري، من ميليشيات وقوى سياسية، بينها شبهُ تحالف أو شبهةُ تعاونٍ أدغمَ غيرِ معلن، وتبرّؤ طائفي/عرقي معكوس أو مقلوب. لتظل الحياة الاجتماعية السورية والسياسية بين مزاعم الطائفة المغلوبة، ودسائس الطائفية المقلوبة؛ فكأننا بين جبهتين ونصرتين.

وليس من عيب في التحالفات السياسية، فكلهم أبناء هذا الوطن، وهم أحرار في اختيار برامجهم السياسية وما يناسبها من تحالفات وطنية؛ لكن الفاجعة فيما تنطوي عليه من متاجرة بشعارات يكذبون في ترديدها والتذرع بها، من الوطنية والديمقراطية والحرية والمدنية والاستقلالية، في حين أنهم يغمضون عيونهم عن موبقات الأطراف الأخرى التي تتجاوز موبقات السلطة الحالية وتفوقها نكرانًا ومنكرًا.

وكثير منها يدعي أنه يدافع عن حقوق الشعب السوري، وعن كرامته وسلامة حياته، بيد أن المتابع لهم سيلحظ، وعلى نحو جلي، نفاقَهم وكذبهم وتمويههم وتعميتهم على أخطاء الأطراف الأخرى وجناياتها وخياناتها. وبعضهم يزعم أنه يلتزم الحيادية والموضوعية؛ فترى هناك مراصد حقوقية وأخرى إعلامية، هيئات، منظمات، مجموعات، رؤساء أحزاب وأحزابًا، وإعلاميين، ومجالس وأعضاءها، وشيوخًا، ومثقفين ... كلها لا عمل لها إلا الهجوم السياسي الإعلامي على السلطة الحالية المؤقتة، في الوقت الذي تكون هناك أخطاء وجنايات لا تقل عما صدر من السلطة بل ويزيد وهي مستمرة، ولكنها تمر بسلام من دون أي نقد أو اعتراض أو رفض واستنكار أو عين ضمير.

وكلما ظهر سياسي وظُن به الخير، خُيّب به الرجاء. وكأن قدرنا- السوريين- أن تغصّ ثقتنا فيمن نظن أنهم من الحلا والطيِّب الذي يُشبع الضمير ويروي الإنسانية.

وكل مَن هو على الساحة السياسية- لا أعرف إذا استثنينا [ هيثم مناع] من التغصيص مجددًا، وقد كانت له عثراته التي غصصنا بها سابقًا- كلهم دجالون منافقون ينطوون في دواخلهم على زيفهم وانحرافهم وطائفيتهم وعنصريتهم وتخلفهم، ورخصهم المخزي تسرّيًا وتقنّنًا، ويظنون أنهم ما زالوا قادرين على التموّه والتمويه. نعم، كلهم قاطبة دجالون كَذَبة، لا يؤتمن لهم جانب، ويجمعهم تحالف الجِبلّة اللاشعوري وطويّة الخبث الرخيص.... نعم ثمة تحالف رخيص يجمعهم: رَفَعَ سعرَ خصمهم؛ فهو أشرف منهم بما بين الثرى والثريا، إن كان السوق سوق شرف، وإلا فهم أرخص وأقل ذمة وإلًّا، خلا أنهم بريئون من شُبهة الكرامة.

جوهر الصراع:

ثمة على نحو ظاهر تحالف طبقي علماوي في ظاهره أيديولوجي في جوهره المحرك، يجمع السنة العلمانيين المدنيين وأكثر المكونات الأخرى، وكأن الثورة كانت ثورة السنة العبيد في مواجهة الأوليغارشية النخبوية. وهذه الطبقية تقوم في أساسها على نظام الحياة وليس على الكتلة الاقتصادية أو النظام المالي، لأن السنة هم الأعلى سيولة مالية والأكبر كتلة اقتصادية في البلد، بيد أن نظام الحياة المحافظ الغالب على نمط العيش عند السنة لا ينسجم مع نظام الحياة والعيش لباقي المكونات السورية الأخرى. ولهذا التحالف جانب طبقي خفي غير ذاك الظاهر، وهو تحالف المدينة ضد الريف. فالبروز الريفي، الذي ظهر أول أمره مع حافظ الأسد، حاول أن يصطنع توازنا طبقيًا/سياسيًا يرضي المدينة التي عادت واستبدت بعد أن دجّنت النظام وجيرته لمصلحتها إلى المستوى الذي ترضاه ويسكتها، الأمر الذي أسهم مع عوامل أخرى في انفجار الوضع وتهيئة الفضاء للاحتجاج والمطالبة بالتغيير. وأما اليوم، وبعد سقوط ذاك النظام وظهور بوادر هذا التحالف الواضح وإن كان غير معلن، فهذا يعني أن التحالفات الراهنة هي تحالفات وجودية أيديولوجية، وليست سياسية تبحث عن مكاسب ديموقراطية وعدالة اجتماعية ودولة قانون. إنها تحالفات تستعد لصراع من أجل فرض إرادة على إرادة، يفضي إلى نمط اجتماعي وسياسي وثقافي طبقي مكون من مدنيين أسياد ومحافظين عبيد.

الانفصام الفينومينولوجي:

يمكن الزعم أن ما حصل ويحصل هو نتيجة منطقية لوهم فينومينولوجي، يتخيله المواطن السوري ويعيشه في وجدانه.

يعيش السوريون وهمين غير موجودين: الأول هو وهم الجماعة المغلوبة؛ كل مواطن يظن أنه ينتمي إلى طائفة مغلوب على أمرها مظلومة ومهددة في ثقافتها ومعتقدها، وفي مكانتها وحقوقها من هذا الوطن. وهذا ينطوي على وهمين مزدوجين الأول ما حكيناه من وهم المظلومية، وأما الثاني فهو وهم وجود الجماعة التي ينتمي إليها؛ إذ ليس هناك في سوريا كتلة جماعية طائفية أو عرقية منسجمة إلا في الوهم السياسي والتصور الأيديولوجي غير الموجود إلا على المستوى النظري، ولا توجد أية مقومات لحصول جماعة مكتملة الاختلاف والاستقلال الجماعي المائز. بيد أن الفساد السياسي والاستبداد صنع مجموعات وجودية متخيلة في الذهنية الفردية السورية.

واليوم هناك ظروف مؤاتية لصناعة تمايز طبقي بوجه طائفي جديد: طبقة الأقلية-المدينة، وطبقة الأكثرية-السنية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بعد أن يثبَّت وهْمُ الجماعة ويمكَّن من ترجمته من المخيلة الفردية إلى الواقع السياسي المتحقق والفاعل. وإلى أن يتحقق ذاك الواقع الجديد لا بد من تحقيق وهمين، قديمٍ وجديدٍ: وهمِ الطائفية/ العرقية المغلوبة، ووهم الطائفية المقلوبة أو المعكوسة المتجلي باللاطائفية في ظاهره والمضمر انتماءً طائفيًا جديدًا،فهذا ما تحرر إلا ليجدد انتمائه، أو لم ينتهِ من وهم الانتماء اللا وطني، وإنما غيَّره فقط.