تبدأ الرحلة من الاتفاق على أن الأدب، في محصلته، نتاج الظروف وانعكاس للحياة بكل أبعادها، مما يجعل السياق التاريخي والاجتماعي ضرورة لتفسيره والحكم عليه، ويُكسب النقد الاجتماعي دورًا متجددًا في قراءة الأدب بوصفه طرحًا دائمًا لأسئلة العدالة والهوية، والمعنى والعلاقة مع الآخر، وهو أحد صور النقد السياقي الذي يربط النص بمجتمعه، ويراه مرآة لتحولاته وصراعاته، وهو بذلك شريك للمنهج التاريخي لا منافس له، فكلاهما يسعى لفهم الأدب في ضوء تطور المجتمعات ووعيها المتغير.

ولدت المنطلقات الفلسفية للنقد الاجتماعي في لحظة كانت فيها أوروبا تتحول إلى مصنع كبير، حيث بدأت الأفكار تُصاغ على حرارة واقع يمتلئ بالتحولات، فظهرت البدايات الأولى للنقد الماركسي، ليس في عزلة شاعر، بل في قلب صراع الطبقات، إذ رأى ماركس وإنجلز أن الثقافة ليست زينة، وأن الفن جزء من البنية الفوقية التي تتأثر بالمجتمع وتتمرد عليه في آن، وأن النص الأدبي لا يولد من فراغ، بل من جماعة تفكر وتختبر العالم.

ومع اتساع الأسئلة، رأى بليخانوف أن الإبداع لا ينمو إلا في تربة اجتماعية، واعتبر مهرينغ أن النص يحمل آثار الصراع الطبقي، ثم جاء جورج لوكاش؛ ليجعل الرواية مرآة لروح العصر، كاشفًا تشيؤ الإنسان في عالم تحول فيه الحلم إلى بند في السوق، وتلاه غرامشي الذي صاغ مفهوم الهيمنة الثقافية ورأى المثقف جزءًا من معركة الوعي، فيما انتقد أدورنو وهوركهايمر تحويل الفن إلى سلعة.


وأوضح بنيامين أن فقدان «هالة» العمل الفني نتيجة الاستهلاك يبدل معناه، بينما رأى ماركوزه في الجمال مساحة مقاومة، وجاء غولدمان ليقرأ النص بوصفه تعبيرًا عن رؤية جماعية، ثم حلل بورديو الحقل الأدبي كمنظومة لها قوانينها، قبل أن يعيد ريموند وليامز الاعتبار للثقافة اليومية التي يصنعها الناس وما تحمله من «هياكل شعور» تتراكم داخل الأعمال الأدبية.

وفي الثقافة العربية، كان ابن خلدون أول من رأى المجتمع ككائن حي تتبدل أطواره ويعكس الأدب مراحله، فاللغة ظاهرة اجتماعية والنص ابنٌ لسياقه، ثم جاء طه حسين ليعيد قراءة التراث في ضوء الفكر الحديث، مؤكدًا أن النص ابن عصره، ثم رسّخ محمد مندور منهجًا يجمع بين الحس الجمالي والوعي الاجتماعي، رافضًا اختزال الأدب في وثيقة أو عزله عن الناس.

تتشكل ملامح النقد الاجتماعي في رؤيته للأدب، بوصفه رسالة اجتماعية تتجاوز حدود الشكل إلى المضمون، فهو نقد مضموني يبرز الأفكار السياسية والفلسفية والجمالية التي ينقلها الأدب، وهو نقد تفسيري يضيء الدلالات الاجتماعية والتاريخية والنفسية داخل النص، ونقد تقويمي يعلي من شأن الكاتب الملتزم بقضايا مجتمعه، ويعيد الاعتبار لمفهوم الالتزام بوصفه موقفًا فكريًا وأخلاقيًا يرفض حياد الأدب أو انفصاله عن الحياة.

يمتاز المنهج الاجتماعي بقدرته على ربط النص بظروفه التاريخية ومنع القراءات المعزولة، وكشف دوره في تشكيل الوعي الجمعي، وتحليل علاقات القوة والهيمنة داخل الخطاب، كما يدرس الأدب كنظام متكامل يجمع الإنتاج والتلقي، ويحمل بعدًا تحرريًا يمنح المهمشين صوتًا داخل النص، غير أنه يُنتقد حين يختزل النص في واقعه الاجتماعي ويهمل قيمته الجمالية، أو حين يجنح إلى الحتمية ويقلل من حرية الإبداع الفردي، إضافة إلى صعوبة إثبات بعض القراءات الاجتماعية بدليل قاطع مما يجعلها عرضة للتأويل.

مع ذلك يبقى النقد الاجتماعي رؤية تمنح النص امتدادًا خارج حدوده، وتعيد وصل الأدب بحياة الناس، جامعًا بين الجمالي والإنساني، وبين الإبداع الفردي والمصير الجماعي، ليغدو جسرًا يربط الكلمة بالواقع، ويجعل الأدب جزءًا من حركة الوعي لا مجرد صدى لها.

فهل يبقى الأدب اليوم قادرًا على عكس الناس لا تكرار صورهم، وهل ينجح الناقد في الموازنة بين صوت المجتمع وحق النص في جماله، وإلى أي حد يستطيع المنهج الاجتماعي قراءة أدبنا دون أن يحصره في الواقع، وأخيرًا: من يكتب الآخر حقًا.. نحن أم المجتمع؟.