يقول: عباس محمود العقاد "حياة واحدة لا تكفيني."

وقد عبّر في أحد مقالاته الشهيرة عن ضيق الحياة الواقعية التي لا تسمح للإنسان بأن يعيش كل ما يتمناه، أو يجرب كل ما يحلم به.فالوقت محدود، والمكان محكوم، والجسد لا يرتدي أكثر من ثوب واحد، ولا يأكل وجبتين في اللحظة نفسها، ولا يزور مدينتين في آنٍ واحد.

بهذا المعنى، فإن الحياة الواحدة لا تكفي أبدًا لمن يُحب القراءة، أو يهيم في طلب المعرفة، أو يتوق لأن يملأ روحه بالتجارب، والأفكار، والمشاعر.


لكن الإنسان يستطيع أن يوسّع هذه الحياة، أن يضاعفها، أن يعيش عشرات. الحيوات من خلال القراءة، والكتابة، والتأمل، والمشاركة الوجدانية.فعندما نشارك أفكارنا، أو نمنح حبّنا، أو نُعبّر عن مشاعرنا، أو نتألم من أجل غيرنا، فإننا نغادر قوقعة الذات، وننفتح على فضاء أرحب وأعمق.

قد تبدو الحياة محصورة في بيت، وظيفة، أو ممتلكات لا تُبادلنا نفس الشعور، ولا تمنحنا ما نبحث عنه من دفء وطمأنينة، بقدر ما هي جوامد لها قيمة في ذاتنا فقط.

لكن الحقيقة أن الطمأنينة لا تأتي من الجدران، ولا من إغلاق الأبواب، ولا من رصيد في الحساب، بل من حياة تمتد إلى الآخرين، تتجاوز حدود الزمان والمكان.

فالإنسان لا ينمو بالماديات فقط، بل ينمو بمشاعره، بخياله، وبعلاقاته بالآخرين.وحينما يكون وحيدًا، مكبوت المشاعر والخيال، فلن يجد من يحتضن تلك المشاعر إلا من يماثله خيالًا وشعورًا.

وكلما انغلقت حياة الإنسان على ذاته، ضاقت حتى اختنقت.أما حين تُفتح على الآخرين — حبًا أو فكرًا أو حتى حوارًا — فإنها تتضاعف، وتثمر، وتتلون بألوان التجربة الإنسانية.

وقد يُصاب البعض بالملل أو يدخل دوامة الاكتئاب، لا لأن حياته فقيرة، بل لأنها منعزلة.وهذا ما نراه في مجتمعاتنا اليوم، حيث تنتشر فئة من الناس تعيش في عزلة لا سبب لها، إلا خوفًا على ممتلكات مادية، يحرسونها ويضحّون بحياتهم لأجلها،

فالذي يحصر حياته في المال والمكان والملكيات، يدفع ثمن كل لحظة، حتى في التفاصيل الصغيرة؛ فكل ما يحتاجه بات مشروطًا بـ "قيمة مادية"، ولا أحد يستقبله أو يشاركه بلا مقابل.وهذا ثمن اختياره أن يعيش ضمن دائرة ضيقة لا يخرج منها.

أما إذا قررت أن تمتد حياتك عبر المشاعر والعلاقات والخيال، فإنك ستكتشف أن الحياة أوسع بكثير مما تتصور، وأن ما كنت تظنه حياة واحدة... يمكن أن يصبح عشرات الحيوات.

إن الحياة التي تستحق أن تُعاش، هي التي تُشارك مع الآخرين،وعندها فقط، تستطيع أن تقول لنفسك بصدق:"حياة واحدة لا تكفيني."

ومن هنا، تبدأ مضاعفة وجودك، لتصبح أكثر من جسدٍ يمشي فوق الأرض... بل روحًا حيّة تلامس أرواح الآخرين.