ثمّة بلاءٌ خفيٌّ يتسلّل في صمت، لا يُرى في الأجساد، بل يستوطن القلوب، حتى يغدو الألم مشهدًا، والمصيبة مادة، والموت خبرًا قابلًا للتداول. بلاءُ هوسِ التصوير، حين يفقد الإنسان هيبته أمام الفاجعة، ويغدو شاهدًا بلا وجدان، حاضرًا بلا رحمة، وقد نسي أن الله قال: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»، فكيف يُهان المكرَّم، وتُنتهك حرمته، بعدسةٍ باردة، ويدٍ لا ترتجف؟

ليست الكارثة في أن يموت إنسان، فالموت سنّةٌ ماضية، ولا في أن تُشيَّع جنازة، فالجنازات مواعظ تمشي على أقدام الرجال، ولا في أن يقع حادث، فالأقدار لا تستأذن أحدًا. إنما الكارثة الحقيقية أن يُصاب القلب بالبلادة، وأن تُصاب الفطرة بالعمى، حتى تصدق فينا الآية: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً». عندها لا يعود المشهد المؤلم يوقظ في النفس خوفًا ولا شفقة، بل يستفز فيها غريزة التوثيق، وكأن الألم خُلق ليُصوَّر لا ليُداوى. كان الإنسان السويّ إذا رأى مصابًا اضطربت جوارحه، وخشع قلبه، وتقدّم بعفويته قبل تفكيره، لأن الرحمة لا تحتاج إلى تعليم، ولأن الفطرة تعرف طريقها إلى العون دون إرشاد. رحمةٌ علّمنا النبي ﷺ أنها شرط نيل رحمة الله، فقال قولًا قاطعًا لا يحتمل التأويل: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، فمن جفّت عينه، وقسا قلبه، كيف يرجو رحمة السماء؟ أمّا اليوم، فقد تسبق الأيدي إلى الهواتف، لا لتطلب الإسعاف، بل لتُحكم زاوية التصوير، وكأن المشهد لا يكتمل إلا إذا حُبس في ذاكرة جهاز، وعُرض على غرباء لا شأن لهم إلا الفضول. نُسيت وصية القرآن: «قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ»، فصار البصر جامحًا، لا يُضبط، ولا يُكفّ، ولا يعرف متى يجب أن يُغضّ احترامًا وحياءً.

تصوير الميت انتهاك، مهما لُبّس بثوب «نقل الواقع»، وقد قال النبي ﷺ: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا»، فإذا كانت الشريعة سوّت بين حرمة الجسد حيًّا وميتًا، فكيف تُستباح صورته، وتُعرَض حالته، ويُتّجر بضعفه؟


وتصوير الجنازة قسوة، مهما ادّعى فاعله الوعي، وتصوير المصاب في لحظة ضعفه جريمة أخلاقية، ولو صُفّقت لها الجماهير. فالحرمة لا تسقط لأن الكاميرا تعمل، والكرامة لا تزول لأن الناس «تريد أن ترى». وأيّ وعيٍ هذا الذي يخالف هدي القرآن، ويُحبّ إشاعة الألم، والله يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»؟

فكيف بمن يُشيع صورة ميت، أو دمًا، أو انكسار أمٍّ ثكلى؟ الأدهى من الفعل ذاته هو الاعتياد عليه. أن يُستنكر السلوك، فيُقابل ببرود. أن يُقال: هذا يؤلم، هذا يجرح، هذا لا يليق.. فلا يتحرّك في النفس شيء، وهنا تتجلّى المأساة العميقة، التي حذّر منها القرآن: «فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ».

حين لا يعود القلب يتألم، ولا الضمير يعاتب، ولا الحياء يقف حاجزًا بين الإنسان وبين انحداره. إنّ الرحمة ليست ضعفًا، بل اكتمال، وليست خيارًا، بل معيار إنساني وإيماني، وقد قال ﷺ: «مَن لا يَرحم لا يُرحم». فمن فقد الرحمة، فقد معها إنسانيته، ولو اكتمل جسده، وتقدّمت تقنيته، واتّسعت منصّاته.

أيّ قلبٍ هذا الذي لا يرتجف أمام جنازة، ولا ينكسر أمام أمٍّ ثكلى، ولا يخجل من انتهاك ستر إنسان في أضعف لحظاته، وقد نهى النبي ﷺ عن تتبع العورات، وتوعّد فاعلها بالفضيحة، ولو في جوف بيته؟ لعلّ الصدق مع النفس يقتضي وقفةً شجاعة. وقفة يُقال فيها بلا مواربة: نحن نحتاج علاجًا، لا للعين، بل للقلب. نحتاج أن نستعيد إنسانيتنا قبل أن نستعيد توازننا. أن نتعلّم من جديد متى ننظر، ومتى نغضّ البصر، ومتى نصمت احترامًا، ومتى نتقدّم مواساةً، فالمؤمن - كما قال ﷺ - كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، لا كعدسةٍ تترصّد السقوط، فليس كل ما يُرى يُصوَّر، ولا كل ما يُوثَّق يُشرّف، ولا كل من حمل هاتفًا صار شاهدًا على الحقيقة.

الحقيقة - كل الحقيقة - أن المجتمع لا يُقاس بتقدّم أدواته، بل بسلامة مشاعره، وأن أخطر ما قد يُبتلى به الإنسان أن يمشي بين الناس حيًّا.. وقلبه ميّت.