هذه الحقيقة تكشف هشاشة الانطلاقات الأولى، لكنها تكشف أيضًا جوهر العمل المؤسسي الحديث: السياسات لا تعمل بذاتها، بل بمن يحرس وضوحها، ويمنع تراكم الضباب حولها، ويعيد ضبطها كلما انزلقت نحو الفوضى.
هنا يظهر القائد التقليدي كأكبر عائق أمام التنظيم. ليس لأنه سيّئ بالضرورة، بل لأنه ينتمي إلى زمن يرى فيه القيادة حدثًا شخصيًا لا إطارًا مؤسسيًا.
هو يفضّل المساحات الرمادية، لأنها تمنحه سلطة أوسع، ويظن أن السياسات الصارمة تقلل من أهميته، وتحوّله من مركز تدور حوله المؤسسة إلى عنصر داخل منظومة يمكن تقييمها وقياسها.
لكن المؤسسات - بخلاف تصوراته - لا تحتمل هذا النوع من الشخصنة. فعندما يصبح القائد هو المرجع الوحيد، تتعطل السياسات، وتتحول القرارات إلى «انتظار توقيعه»، وتبدأ المؤسسة بفقدان ذاكرتها الإجرائية. لا شيء يُعتمد إلا ما يتذكره القيادي، ولا شيء يُنفّذ إلا ما يتوافق مع مزاجه.
وهنا يكمن التناقض الأكبر: القايادي التقليدي يعتقد أنه يحمي المؤسسة، بينما هو يربط حياتها بنموذجه الشخصي، فتسقط بمجرد أن يُرفع هذا النموذج من المشهد.
لهذا يظهر مفهوم الحارس. الحارس ليس سلطة إضافية، بل عقل إداري يفهم أن السياسات تحتاج إلى استمرارية لا توفرها الكاريزما، وإلى تحديث لا تدركه العاطفة. الحارس يحمي السياسات من التشويش، لكنه يحميها أيضًا من الجمود؛ يراقب تغيّر البيئة، فيُحدّث الإجراءات، ويعيد هيكلة المسارات، ويفتح نوافذ جديدة عندما يصبح الهواء داخل المؤسسة راكدًا.
التحديث عنده ليس رفاهية، بل مسؤولية. والسياسة عنده ليست وثيقة جامدة، بل كائن تنظيمي يجب أن يظل حيًا وقادرًا على التأقلم. وبغياب هذا الحارس، تقع المؤسسات بين طرفين قاتلين: فوضى القائد التقليدي أو تصلّب اللوائح.
ولأن الطرفين يستهلكان طاقة المؤسسة ويعطلان نموّها، فإن الحارس وحده من يعيد التوازن بين قوة السياسات وقدرتها على التطور، فالقائد التقليدي يظن أنه يدرك ما يفعل، لكن النتائج تكذّب حدسه. أما الحارس، فيسبق النتائج دائمًا؛ يحدد الهدف، ويقرأ المؤشرات قبل أن تتكلم الأرقام.