لا يزال الزواج أحد أهم الروابط الإنسانية التي تبنى عليها المجتمعات، فهو ليس مجرد عقد بين شخصين، بل مسؤولية مشتركة تُبنى عليها أسرة، وينشأ منها جيل تتشكل به معالم المستقبل. ولأهمية هذا الرابط، جاءت وصايا السلف الصالح تحثّ على التثبّت في شريك الحياة، لا سيما عندما يتعلق الأمر ببناتنا، فالبنت أمانة، ولا تسلم الأمانة إلا لمن كان أهلاً لها.

وقد رسخ الإسلام مكانة البنت وحقها في الزوج الصالح، ودعا أولياء الأمور إلى تحري الرجل المناسب لها خُلقاً وديناً، لا مظهراً ولا مالاً ولا جاهاً، بل رجل يضيف لحياتها معنى، ولأسرتها سنداً، وللمجتمع بناء. ومن أجمل الشواهد على ذلك قصة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابنته حفصة، حين تُوفي زوجها وتقدّم بها الزمن، فأراد لها زوجاً صالحاً يجبر خاطرها ويكون لها عوناً وسنداً.

فقد ذهب عمر رضي الله عنه أولاً إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فعرض عليه الزواج من حفصة، فاعتذر أبو بكر اعتذاراً لم يبيّن سببه. ثم ذهب إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فعرض عليه الزواج منها، فطلب عثمان مهلة للتفكير، ثم عاد معتذراً هو الآخر. فحزن عمر لذلك، وظن أن في ابنته ما قد يجعلهم يعزفون عن الزواج منها، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو له حاله. وهنا جاء الرد الذي بدّد حزنه رضي الله عنه، حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «يعوّض الله حفصة خيراً من أبي بكر وعثمان، ويعوضهما خيراً منها». ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة لنفسه، فكانت زوجة وأماً للمؤمنين، ولم يجد عمر لابنته زوجاً خيراً من رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.


هذه القصة العظيمة تحمل دلالات عميقة؛ فهي تذكّرنا بأن انتقاء الرجل الصالح للبنت هو واجب الأب وحق البنت، وأن البحث والسؤال والتحري ليس انتقاصاً من أحد، بل هو صون للأسرة، وحرص على مستقبل ابنتك التي أودعك الله سعادتها. وأن الاعتذارات التي قد تواجه ليست بالضرورة رفضاً يقطع الطريق أمام من يبحث عن الزواج، بل قد يكون وراء الأمر حكمة لا يعلمها إلا الله، و في قصة عمر بن الخطاب مع أبي بكر وعثمان كان اعتذار أبي بكر وعثمان لأنهما كانا يعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم سيخطبها، فأبقيا الأمر سراً حتى أعلنه رسول الله.

كما أن هذه القصة تحمل رسالة أخرى مهمة للشباب: دع أثراً طيباً يُشار إليك به، فالأخلاق الحميدة والسلوك القويم هما رأس المال الحقيقي للشاب الباحث عن الزواج. فالناس لا يزكون إلا من رأوا فيه خيراً، ولا يمدحون إلا من لمسوا فيه رجاحة العقل، ونقاء السيرة، وطيب الأثر في مجتمعه. فإذا أراد الشاب أن يُطرق بابه يوماً ليطلب لفتاة صالحة، فليجتهد في أن يكون قدوة في سلوكه، صادقاً في معاملاته، محسناً في تعامله مع الناس، فذلك أعظم وسيلة لفتح أبواب الخير أمامه.

وفي المقابل، على الآباء أن يضعوا نصب أعينهم أن العبرة ليست بمن يتقدم، ولكن بمن يستحق. فبعض البنات لا يُطرق بابهن إلا قليلاً، ولكن يختار الله لهن من الرجال من يفوق الجميع خلقاً ورفعةً وكرماً، تماماً كما وقع مع حفصة رضي الله عنها. ولهذا فإن اتخاذ قرار الزواج يجب أن يقوم على سؤال صادق وبحث بدقة ونظر في مستقبل ابنتك، فالرجل الذي تستأمنه عليها ليس ضيفاً ليومين، بل شريكاً لعمرك وعمْرها، وقائداً لبيت سيبنى على يديه.

الرسالة التي أصبوا إليها واضحة: اخطب لابنتك... ولا تخطب لولدك، فالبنت أمانة تحتاج إلى اختيار واعٍ ورجل حقيقي يعرف قدرها، والشاب يحتاج إلى أن يبني سيرته قبل أن يبني بيته. وبذلك نضمن بيوتاً أكثر استقراراً، وزواجات تقوم على أسس سليمة، وأجيالاً تنشأ على الطيب من الرجال والنساء.

احصل على Outlook لـ iOS