بدأت محاولات تبسيط العلوم الحديثة في الغرب قبل ظهور الإنترنت بوقت طويل. ويمكن تتبع بعض جذورها المبكرة في محاضرات المعهد الملكي لعيد الميلاد في لندن، وهي المحاضرات التي انطلقت في القرن التاسع عشر بهدف تقديم العلوم للجمهور بلغة سهلة.

ثم بدأت الـBBC ببثها في ثلاثينيات القرن العشرين، مما منحها انتشارًا واسعًا وأدخل أسلوب الشرح العلمي المبسط إلى البيوت. غير أن التحول الحقيقي نحو التبسيط الجماهيري الواسع ظهر لاحقًا مع الأعمال التلفزيونية الكبرى، خصوصًا سلسلة «كوزموس» الشهيرة التي قدمها كارل ساجان عام 1980.

أعادت هذه السلسلة صياغة العلوم والكونيات في قالب بصري ممتع يعتمد على السرد القصصي والرسوم الجذابة. وبعد عقود، ظهرت النسخة الحديثة من السلسلة مع نيل ديجراس تايسون،


لتؤكد أن تقديم العلوم بلغة مبسطة أصبح اتجاهًا راسخًا يمهد لظاهرة المحتوى العلمي الجماهيري التي انفجرت لاحقًا على يوتيوب ومنصات التواصل، وهي الظاهرة التي أصبحت اليوم موضة طاغية تحتل واجهة المحتوى الأكثر رواجًا على المنصات الرقمية.

ومع ازدهار هذا النوع من التقديم، انتقلت الظاهرة إلى باقي الأمم، بما فيها العالم العربي. وقد استنسخ العالم العربي هذا النموذج وأعاد إنتاجه بالأساليب الجذابة نفسها التي تعتمد في الإقناع على المؤثرات الصوتية والمرئية، أو تُطعم الفيديوهات بمصطلحات الحصانة العلمية مثل: «أثبتت الدراسات»، و«أظهرت الأبحاث»، و«حسب جامعة كذا».

وغيرها من التعابير التي تمنح المشاهد شعورًا بأن المحتوى علمي ودقيق، حتى وإن كان مجرد تبسيط شديد الاختزال إلى درجة تجعله مرنًا يسهل على المقدم تشكيله بالصورة التي تناسب هدفه، وليست النتيجة التي يفرضها الواقع المجرد.

ومن أساليب المكياج العلمي الذي تضعه هذه البرامج أن يضيف بعض مقدمي المحتوى قائمة مراجع في الوصف، أو يلمحوا إلى مصادر أبحاث لإعطاء الانطباع بالمصداقية.

ولكن مع هذا الانتشار الواسع، بدأ الباحثون مؤخرًا ينظرون إلى الظاهرة بجدية أكبر، خصوصًا حين بدأت تشكل خطرًا في مجالات حساسة مثل الطب والصحة. وحتى في المجالات الأقل خطورة، فإن انتشار محتوى يُظن أنه علمي بسبب طريقة عرضه قد يخلق تصورات خاطئة، ويؤدي إلى تضليل واسع من دون قصد.

وقد حللت إحدى الدراسات 200 مقطع فيديو يناقش قضية تغير المناخ، وانتهت إلى نتيجة لافتة تقول إن نسبة كبيرة من المعلومات الواردة فيها إما خاطئة أو مضللة. وهنا يبرز السؤال الأول: لماذا يجد الجمهور هذا النوع من المقاطع جذابًا؟ لأن الإنسان بطبيعته يميل إلى الطريق الأقصر.

فعندما يواجه نظرية معقدة أو قضية علمية صعبة، ويرى أنه يستطيع– كما يظن– فهمها في دقائق معدودة عبر فيديو ممتع بدل الخوض في بحوث علمية مليئة بالتفاصيل والسياقات، فإنه يختار هذه الوجبة السهلة بلا تردد.

الفيديو الخفيف والمشوق يمنح المتلقي وهم الإحاطة السريعة بنتائج قطعية وحاسمة، وهذا وحده كافٍ لجذب الجمهور. وأما السؤال الثاني: لماذا هذه المقاطع غير دقيقة؟

لأن طبيعة التبسيط نفسها قائمة على الاختزال. وبطبيعة الحال، إذا حاول منتج الفيديو أن يتقدم خطوة نحو الدقة، فسيتراجع خطوة عن التشويق والإمتاع. وإذا تقدم خطوتين نحو الدقة، فسيتراجع خطوتين عن الجاذبية التي يريدها الجمهور، الذي يسعى المقدم إلى إرضائه كهدف أول ورئيسي. وإذا بلغ أعلى درجات الدقة الممكنة، فإن المادة التي يقدمها ستقترب من طبيعة الكتب العلمية المحكمة أو الدراسات البحثية:

تفاصيل ومعادلات وحسابات وسياقات منطقية متشابكة، وهي أمور ينفر منها أغلب المتابعين. وقد أشار ستيفن هوكنج إلى هذه المعضلة في مقدمة كتابه موجز تاريخ الزمان، حيث قال: «أخبرني أحدهم أن كل معادلة أدرجها في الكتاب ستُخفض المبيعات إلى النصف.

لذلك قررتُ عدم إضافة أي معادلات. وفي النهاية أضفتُ معادلة واحدة فقط، معادلة أينشتاين الشهيرة E=mc²، وآمل ألا يُخيف هذا نصف قرائي المحتملين». ونحن هنا لا نقول إن هذا النوع من المحتوى سيئ، فهو بلا شك أفضل من المحتوى الترفيهي الخالص.

ولكن تبقى المشكلة في تصور المتلقي. فإذا أدرك المشاهد أن هذه المقاطع مجرد مدخل أولي إلى الأفكار وليست علمًا يُعتمد عليه، ويدرك أن المقدم بهذا الأسلوب نفسه يستطيع أن يصل إلى هذه النتيجة التي وصل إليها أو إلى نتيجة أخرى، فليس عليه قيود علمية صارمة فلن يكون هناك ضرر كبير.

لكن الخطر يظهر حين يظن البعض أن هذه المقاطع علمٌ حقيقي يُبنى عليه، فيشكل من خلالها معتقدات وتصورات وأفكارًا، وقد يتوهم أنها تمنحه قدرة على مناقشة العلماء ومناظرتهم،

أو أنها بديل عن قراءة الكتب والدراسات الجادة. وهنا يتحول تبسيط العلوم إلى مصدر لثقة زائفة وثقافة سطحية وتضليل.