لا أريد أن تخلع المرأة وتمزق حجاب العفة وهو المعنى الذي يفهمه البسطاء من العامة عادة من كلمة الحرية عند إضافتها إلى المرأة

وأستطيع أن أقول وأنا على ثقة مما أقول إن الأطفال الذين استطاعوا في هذا العالم أن يعيشوا سعداء معنياً بهم وبتربيتهم وتخريجهم على أيدي أمهاتهم الأرامل الطيبات أضعاف الأطفال الذين نالوا هذا الحظ على أيدي آبائهم الأقوياء الأثرياء بعد فقد أمهاتهم، وللرحمة الأمية الفضل العظيم في ذلك.

فليت شعري هل شكرنا للمرأة تلك النعمة التي أسدتها إلينا وجازيناها خيراً؟ لا، لأننا إن منحناها شيئاً من عواطف قلوبنا ومشاعر نفوسنا فإننا لا نمنحها أكثر من عواطف الحب والود، ونضن عليها كل الضن بعاطفة الاحترام والإجلال، وهي إلى نهلة واحدة من موارد الإجلال والإعظام أحوج منها إلى شؤبوب متدفق من سماء الحب والغرام.


قد نحنو عليها ونرحمها، ولكنها رحمة السيد بالعبد، لا رحمة الصديق بالصديق، وقد نصفها بالعفة والطهارة، ومعنى ذلك عندنا أنها عفة الخدر والخباء لا عفة النفس والضمير، وقد نهم بتعليمها وتخريجها لا باعتبار أنها إنسان كامل لها الحق في الوصول إلى ذروة الإنسانية التي تريدها وفي التمتع بجميع صفاتها وخصائصها، بل لنعهد إليها بوظيفة المربية أو الخادم أو الممرضة، أو لنتخذ منها ملهاة لأنفسنا ونديماً لسمرنا ومؤنساً لوحشتنا، أي إننا ننظر إليها بالعين التي ننظر بها إلى حيواناتنا المنزلية المستأنسة، لا نسدي إليها من النعم ولا نخلع عليها من الحلل إلا ما ينعكس منظره

على مرآة نفوسنا فيملأها غبطة وسروراً.

إنها لا تريد شيئاً من ذلك، إنها لا تريد أن تكون سرية الرجل ولا محظيته ولا أداة لهوه ولعبه، بل صديقته وشريكة حياته.

إنها تفهم معنى الحرية كما يفهمها الرجل، فيجب أن يكون حظها منها مثل حظه أنها لم تخلق من أجل الرجل بل من أجل نفسها، فيجب أن يحترمها الرجل لذاتها لا لنفسه،

يجب أن تنفس عنها قليلاً من ضائقة سجنها لتقهم أن لها كياناً مستقلاً وحياة ذاتية وأنها مسؤولة عن ذنوبها وآثامها أمام نفسها وضميرها لا أمام الرجل، يجب أن تعيش في جو الحرية وتستروح رائحته المنعشة الأريجة ليستيقظ ضميرها الذي أخمده السجن والاعتقال من رقدته ويتولى بنفسه محاسبتها على جميع أعمالها ومراقبة حركاتها وسكناتها، فهو أعظم سلطاناً وأقوى يداً من جميع الوازعين والمسيطرين، يجب أن تحترمها لتتعود احترام نفسها، ومن احترم نفسه فهو أبعد الناس عن الزلات والسقطات.

لا يمكن أن تكون العبودية مصداً للفضيلة ولا مدرسة لتربية النفوس على الأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة إلا إذا صح أن يكون الظلام مصدراً للنور والموت علة في الحياة والعدم سلماً إلى الوجود. كما لا أريد أن تخلع المرأة وتستهتر وتهيم على رأسها في مجتمعات الرجال وأنديتهم وتمزق حجاب الصيانة والعفة المسبل عليها، وهو المعنى الذي يفهمه البسطاء من العامة عادة من كلمة الحرية عند إضافتها إلى المرأة، كذلك لا أحب أن تكون مستعمرة ذليلة يسليها مستعمرها كل مادة من مواد حياتها ويأخذ عليها كل طريق حتى طريق النظر والتفكير.

وبعد فإما أن تكون المرأة مساوية للرجل في عقله وإدراكه أو أقل منه، فإن كانت الأولى فليعاشرها معاشرة الصديق للصديق، والنظير للنظير، وإن كانت الأخرى فليكن شأنه معها شأن المعلم مع تلميذه والأب مع ابنه، أي إنه يعلمها ويدربها ويأخذ بيدها حتى يرفعها إلى مستواه الذي هو فيه أو ما يقرب منه، ليستطيع أن يجد منها الصديق الوفي والعشير الكريم، والمعلم لا يستعبد تلميذه ولا يستذله، والأب لا يحتقر ابنه ولا يزدريه.

1927*

* كاتب مصري «1876 - 1924»