لم يكن المفكر الروماني إميل سيوران متشائمًا على النحو الذي كان عليه آرثر شوبنهاور أو فيليب ماينلاندر وغيرهما. بل إن نظرته تدعونا إلى مواجهة الهاوية وجهًا لوجه، وإلى قبول أن الحياة لا تمتلك سببًا يتجاوز تحققها الذاتي، وأن ننخرط فيها بشغف، من دون انتظارٍ فارغ أو آمالٍ موهومة.

في أحد نصوصه الأقل قراءة والأكثر غموضًا، «نافذة على العدم»، كتب المفكر الروماني إميل سيوران (1911–1995) شذرة لا تُنسى، شديدة الكثافة، تلخص بوضوحٍ باهر جوهر قناعاته:

«كل ما فينا عظيم يميل إلى قهر الألم. لكننا لا نكون عظماء حقًا إلا بقدر ما نعجز عن ذلك ــ أي بقدر ما نواصل القتال».


هكذا اختزل سيوران وجودنا في نوع من البطولة التراجيدية، قوامها قول «نعم» كبيرة للحياة، رغم كل شيء ورغم الجميع. رغم الكآبة واليأس، ورغم المعاناة وكل ظرفٍ ثقيل: دائمًا في قلب هاوية اللا معنى ومن داخلها.

صُنّفت أعمال سيوران على أنها متشائمة، بل وُصم أحيانًا ــ خطأً ــ بأنه مدافع شرس عن الانتحار. غير أن قراءة متأنية لكتبه الغنية تكشف عن مفكر منشغل قبل كل شيء بتحليل ومعايشة أكثر الألغاز الإنسانية استعصاءً: الفناء والموت، التعالي والروحانية، الحزن واليأس، عذاب الوعي والقلق أمام الماضي والمستقبل. وهي مشاعر واجهها عبر القوة الخلاصية للموسيقى والمشي، أو عبر البلسم الذي تمنحه السخرية والفكاهة، سعيًا إلى التغلغل فيما سماه هو نفسه «الأصل العميق للحياة».

لم يكن سيوران متشائمًا على طريقة شوبنهاور أو ماينلاندر أو إدوارد فون هارتمان أو يوليوس بانسن، ولا حتى على طريقة ألبرت كاراكّو أو ديفيد بيناتار المناهض للإنجاب. فقد صرّح في مقابلات عديدة أنه لا يرى نفسه مفكرًا متشائمًا، بل مفكرًا في اللا معنى، في اللا مؤسس، في ما لا سند ولا تبرير له. فالحياة تفتقر إلى قاعدة أنطولوجية–ميتافيزيقية تُقام عليها؛ إنها محض تجربة جارية في ذاتها، وكل واحد منا ــ كائن فردي معرّض لكل أشكال التقلب ــ مطالب بأن يعيشها في عزلة قصوى (وأحيانًا مؤلمة). وقد كتب:

«كم من العزلة يلزم لامتلاك روح! وكم من الموت في الحياة وكم من النيران الباطنية!».

في كتابه الأول في ذرى اليأس (1934)، يدعونا سيوران إلى أسلوب حياة خاص سماه «شغف العبث». فرغم مرارات الوجود واختباراته المتعددة، تبقى دائمًا حجة للاستمرار. وهذه الحجة هي.. اللا حجة نفسها: أي أنه «لا توجد أسباب للعيش». يعرّينا سيوران أمام الحياة، بلا درع ميتافيزيقي ولا قناعات متعالية، ويؤكد أن الاستمرار لا يكون ممكنًا إلا إذا احتضنّا العبث، «وأحببنا اللا جدوى المطلقة»، لأن «من خسر كل شيء في الحياة، لا يبقى له سوى شغف العبث».

لا يمكن لمفكر متشائم أن يتحدث بهذه اللغة. بل إن سيوران، إذا أُحسن فهمه، يبدو متفائلًا على نحوٍ شاذ. فكيف، وقد عانى منذ شبابه من أرقٍ قاتل، ومن ميلٍ سوداوي، ومن علاقة مضطربة بأمه، ومن ازدراء الأوساط الأكاديمية، ومن شعور باللا جدوى، ومن أحقاد وحسد.. كيف كان يمكنه البقاء؟ لقد ناشد سيوران فينا قوة بطولية أسماها «منهج الاحتضار».

وللحديث صلة...