في عالمٍ اعتاد أن يقيس النفوذ بعدد الطائرات والصواريخ، بدأت قوةٌ أخرى تتسلل بهدوء إلى معادلات التأثير، قوة لا تُحدث ضجيجًا ولا تترك أنقاضًا، لكنها تغيّر الاتجاه ببطءٍ وعمق. إنها القوة التي لا تُمارَس بالإكراه، بل تُبنى بالمعنى، ولا تُفرض بالقوة، بل تُكتسب بالثقة. الثقافة هنا ليست ترفًا ناعمًا، بل أداة سيادية مكتملة الأثر.

الدول التي فهمت هذا التحول مبكرًا أدركت أن الصدام يخلق خصومًا، بينما الثقافة تصنع شركاء. وأن الخطاب حين يكون محمّلًا بالهوية، والذاكرة، والقيم الإنسانية المشتركة، يصبح أبلغ من أي تهديد مباشر. فالمتاحف، والمهرجانات، واللغة، والتراث، وحتى السرديات الوطنية، كلها لم تعد تفاصيل جانبية، بل عناصر فاعلة في بناء النفوذ طويل الأمد.

القوة الهادئة لا تعمل بمنطق النتيجة السريعة، بل بمنطق التراكم. هي استثمار صبور في صورة الدولة، في مصداقيتها، وفي قدرتها على أن تكون حاضرة في وعي الآخر لا في خوفه. ولهذا السبب تحديدًا، تفشل الدول التي تتعامل مع الثقافة كملف علاقات عامة، وتنجح تلك التي تدمجها في صلب سياساتها الخارجية، وتمنحها بعدًا مؤسسيًا وإستراتيجيًا.


التجربة السعودية في السنوات الأخيرة تقدم مثالًا لافتًا على هذا التحول. فبدل الاكتفاء بخطاب سياسي تقليدي، اتجهت المملكة إلى إعادة تعريف حضورها الدولي من بوابة الثقافة، ليس عبر تصدير صورة جاهزة، بل عبر فتح مساحات للتبادل، والاعتراف بالتنوع، وبناء شراكات ثقافية تحترم الخصوصية ولا تلغي الاختلاف. هذا المسار لم يكن منعزلًا عن السياسة، بل كان مكمّلًا ذكيًا لها، يخفف من حدّة التوتر، ويمنح الدبلوماسية رصيدًا تفاوضيًا أعمق.

ما يميز القوة الهادئة أنها لا تُقاس فورًا، ولا تظهر آثارها في البيانات العاجلة، لكنها تظهر لاحقًا حين تتغير نبرة الخطاب، وحين تصبح الدولة مرجعًا لا مجرد طرف، وحين يُستدعى نموذجها بوصفه تجربة، لا موقفًا عابرًا. هي قوة تبني شرعيتها من الاستمرارية، لا من ردود الأفعال.

في زمنٍ تتسارع فيه الأزمات، وتتشابك فيه المصالح، تبدو الثقافة واحدة من آخر المساحات القادرة على خلق أرضية مشتركة بين المختلفين. ليست حلًا سحريًا، لكنها أداة ذكية لمن يفهم أن النفوذ الحقيقي لا يُمارس دائمًا من الأعلى، بل يُبنى أحيانًا من العمق.